
صورة تعبيرية لعملات بيتكوين و إيثيروم
✍️ المستشار / الخبير الاستراتيجي إلياس قابيل
في عصر تتقدّم فيه التكنولوجيا بسرعة الضوء، لم يعد غسيل الأموال حكرًا على الحقائب المليئة بالدولارات أو الحسابات البنكية الغامضة في جزر الكاريبي. اليوم، هناك ساحة جديدة وأشد تعقيدًا: العملات الرقمية.
“بيتكوين”، “إيثيريوم”، “مونيرو”، وغيرها من العملات المشفّرة لم تَعُد فقط أدوات للمستثمرين أو عشاق التقنية، بل أصبحت الملاذ المثالي للأموال القذرة… مال ناتج عن الجريمة، يتم إخفاؤه وتمويهه، ثم يعود إلى السوق وكأن شيئًا لم يكن.
ثلاث خطوات… وملايين مغسولة
مثل غسيل الأموال التقليدي، تمر العملية بثلاث مراحل:
- الإدخال (Placement):
يبدأ المجرمون بشراء العملات الرقمية عبر منصات “نظير إلى نظير” (P2P) أو من خلال صناديق مجهولة، أو حتى عبر أجهزة صراف العملات الرقمية. وقد يحصلون على عملات مشفّرة من بيع خدمات غير قانونية، مثل الابتزاز الإلكتروني أو الاتجار بالمخدرات على الإنترنت المظلم. - التغطية (Layering):
تبدأ الخدعة الحقيقية هنا، حيث يتم تمرير العملات الرقمية بين عشرات المحافظ، أو من خلال خدمات التمويه (Mixers) التي تخلط الأموال في معاملات جماعية يصعب تتبعها. البعض يستخدم عملات مشفّرة قائمة على الخصوصية، مثل “مونيرو”، التي صمّمت خصيصًا لإخفاء هوية المستخدم. - الدمج (Integration):
هنا يعود المال “نظيفًا”. تُحوّل العملات إلى نقد، أو تُستخدم في شراء عقارات، ساعات فاخرة، أو حتى رموز NFT. وقد تُستثمر في شركات “واجهة” لا تحمل من الحقيقة سوى الاسم.
لماذا يجب أن نقلق؟
قد يبدو الأمر وكأنه مشكلة تقنية، لكنه تهديد حقيقي للنظام المالي العالمي. هذه الممارسات تُضعف قوانين مكافحة غسيل الأموال، وتُمكّن العصابات والمجرمين من مواصلة أنشطتهم بلا مساءلة. والأسوأ من ذلك، أن بعض هذه الأموال قد تُستخدم لتمويل الإرهاب أو الاتجار بالبشر.
ماذا تفعل الحكومات؟
الرد بدأ، لكن متأخرًا. فرضت العديد من الدول قواعد “اعرف عميلك” (KYC) على منصات التداول، وأطلقت أدوات تحليل لتتبّع معاملات البلوك تشين، وصادرت أصولًا رقمية في عمليات مشتركة بين وكالات أمنية. كما بدأت الدول بالتنسيق تحت مظلة “مجموعة العمل المالي” (FATF) لسدّ هذه الثغرات.
الكلمة الأخيرة
العملات الرقمية ليست شريرة بحد ذاتها. بل هي أداة – مثل الإنترنت أو الكهرباء – يمكن استخدامها للخير أو للشر. لكن ترك هذه الساحة بلا تنظيم صارم سيحولها إلى غابة رقمية يتجوّل فيها المال القذر بحرية.
ما لم تتحرك الحكومات بسرعة وتُجبر هذه التكنولوجيا على الانضباط، فقد نجد أنفسنا أمام نظام مالي موازٍ، لا يخضع لأي قانون، ويحكمه من يُتقن فنون الاختفاء في سلاسل الكتل المشفّرة.
هل نحن مستعدون لهذا العالم؟