Categories: آراء

سوريّا المسالمة ولبنان المحارب!

حازم صاغية

بغضّ النظر عن الموقف من أحمد الشرع، قائد هيئة «تحرير الشام»، يصعب عدم التوقّف عند ما قاله عن الحرب والسلام. فهو أعلن بصراحة أنّه لا يريد لسوريّا قتال إسرائيل، والتورّط في نزاعات، لأنّ مهمّة بنائها، هي المدمَّرة والمستنزَفة والمفلسة، تعلو كلّ مهمّة. وهو أرفق هذا الموقف بآخر مفاده أنّ التجنيد الإلزاميّ في سوريّا الجديدة لن يكون بعد اليوم إلزاميّاً. وضدّاً على ترّهات أشاعتها حركات «التحرّر الوطنيّ» عن «الثورة» و»المقاومة» كطريقة حياة ومادّة تقديس، رأيناه يعلن أنّ الثورة انتهت بمجرّد إسقاط الطاغية، وأنّها لن تكون مرجعاً يُحتكم إليه في إدارة البلد. فالثورة مجرّد حدث تُضطرّ إليه المجتمعات اضطراراً لتصويب واقع جائر، ثمّ تعود الحياة بعد ذاك إلى مجاريها.

وكلام كهذا كان ليكون عاديّاً لو قيل عن بلد آخر. أمّا في سوريّا، ذات المجتمع المُعسكَر حتّى الأسنان، فيُحتمل أن يكون الكلام إيذاناً بتحوّل ضخم. فحكّام سوريّا، منذ 1949، عسكريّون، وباستثناء سنوات قليلة كان الحكم فيها لسياسيّين كشكري القوتلي وناظم القدسي، ظلّ العسكريّون لهم بالمرصاد، يبقى الجيش صانع سوريّا الحديثة، ومُدمّرها أيضاً. وقد اقتصر آباء البلد المؤسّسون، وفق الرواية الرسميّة التي صارت شعبيّة، على قادة مقاتلين كيوسف العظمة وابراهيم هنانو وسلطان الأطرش وصالح العلي ممّن قاوموا الانتداب الفرنسيّ. لكنّ المجتمع السوريّ لا يُختصر بهم، كما أنّ تاريخه لا يُختصر بالمقاومة. وهذا فضلاً عن أنّ تنوّعهم الطائفيّ والإثنيّ بات يُستخدم شهادة لصالح المعركة «القوميّة» الجامعة التي يُقاس عليها التعدّد بدل أن تُقاس هي عليه. وإنّما بسبب تشبّع بالعسكر والنزعة العسكريّة كهذا، لُفّ «الدكتور» بشّار الأسد، حين قُرّر توريثه، ببزّة عسكريّة لا يجوز لحاكم سوريّا أن لا يلبسها.

وبالطبع كانت فلسطين أكبر الذرائع المستخدمة في تفسير هذه الحاجة إلى حاكم عسكريّ يتربّع فوق مجتمع ودولة عسكريّين. ونعلم أنّ الانقلاب الأوّل في تاريخ سوريّا الحديثة، أي انقلاب حسني الزعيم، تأخّر عاماً واحداً فقط عن نكبة فلسطين في 1948. ومذّاك، وخصوصاً منذ انقلاب البعث في 1963، صار البلد وظيفة قتاليّة، إذ «يصمد» و»يتصدّى» و»يُحبط مؤامرات» و»تتكسّر على صخرته الخيانات»، أكثر كثيراً منه مسرحاً لسعي البشر وإنتاجهم وتبادلهم وتعليمهم وصحّتهم… هكذا جاز القول إنّ تاريخ سوريّا العسكريّ ابتلع تاريخها المدنيّ ابتلاع وظيفتها الحربيّة باقي معانيها وأبعادها.

إلاّ أنّ ما كان أشدّ إدهاشاً ممّا أعلنه الشرع انعدام الاعتراض عليه. ذاك أنّ السوريّين لم يعد يُغريهم أن يكونوا «قلب العروبة النابض» الذي يهدّد بتحرير فلسطين وتوحيد العرب. وأشدّ من ذلك إثارة للدهشة أنّ تلك الأقوال قيلت فيما إسرائيل تواصل احتلال أراض سوريّة وارتكاب أعمال عدوانيّة، فكأنّما الشرع يُحيل إلى السياسة والعلاقات الديبلوماسيّة حلّ مشكلة ثبت للمرّة المليون أنّها لا تُحلّ بالقوّة.

ولربّما جاز التكهّن، كواحد من الاحتمالات، بنهاية تلك السوريّا العسكريّة التي، باسم فلسطين والعروبة، قتلت فلسطينيّين ولبنانيّين وأردنيّين وعراقيّين، فضلاً عن السوريّين، وملأت المنطقة سلاحاً وميليشيات، كما اغتالت وهدّدت بالاغتيال وبالسيّارات المفخّخة في شوارع مدن عدّة. ولربّما بِتنا، وأيضاً كواحد من الاحتمالات، عشيّة ولادة سوريّا جديدة، مسالمة ومُنكبّة على بناء داخلها الوطنيّ وترميم التصدّعات العميقة التي أحدثها العهد الآفل.

فإذا صحّ هذا الافتراض، وهي «إذا» كبرى، كنّا أمام تبنٍّ سوريّ للطريقة اللبنانيّة التقليديّة، حيث السلطة العسكريّة تخضع للسلطة المدنيّة، والجيش مؤسّسةٌ يغلب الرمزيّ فيها على الفعليّ، فيما القوّة تُجتَنَب ولا تُعبَد، أمّا النزاعات الخارجيّة فتُحَلّ بالسياسة والديبلوماسيّة. وهو نهج تولّى النظام السوريّ البائد والميليشيات المسلّحة، مرّةً بعد مرّة، منع لبنان من اتّباعه.

والمُفارق اليوم، ومع إصرار تمسّك البعض بعدم نزع سلاح «حزب الله»، أنّنا نستورد النظريّة السوريّة فيما تستورد سوريّا النظريّة اللبنانيّة. وكان الاستيراد الأوّل قد نما بمحاذاة نشأة الحزب المذكور وتعاظم قوّته على حساب قوّة الدولة والمجتمع اللبنانيّين. وفي المسار الكارثيّ هذا كان العام 2013 منعطفاً بالغ الأهميّة، إذ عامذاك بدأ تدخّل الحزب العسكريّ في سوريّا والذي ما لبث أن صار فعلاً احتلاليّاً وإحلاليّاً. ومع التدخّل طرأ تبادل في الأدوار فانتقلت إلى لبنانيّي «حزب الله» مهمّة التعذيب العسكريّ للمجتمع السوريّ، بعدما كانت الدولة العسكريّة السوريّة تتولّى مهمّة تعذيب المجتمع اللبنانيّ.

لكنْ يُرجّح، إذا نجحت التجربة السوريّة الجديدة، أن يتوقّف هذا الاستيراد لأنّ مصدر التصدير الأصليّ يكون قد كفّ عن الاشتغال. فكيف وأنّ المنطقة كلّها أبدت وتبدي عزوفاً عن حرب لم يعد المقتنعون بها كثيرين، وإلاّ لكان في وسع حدث كـ»طوفان الأقصى» أن يمهّد لطوفانات عنف في العالم العربيّ يعجز أيّ نظام «عميل» عن التصدّي لها.

إنّ ما يراد للبنان اليوم هو أن يبقى «غابة بنادق» فيما تعلن سوريّا إتلاف غابات بنادقها المؤسِّسة، وهذا في أغلب الظنّ صعب إن لم يكن مستحيلاً.

نقلا عن الشرق الأوسط

web master

Share
Published by
web master

Recent Posts

وقف النار في غزة على المحك: هل تنجح واشنطن في منع انفجار جديد؟

تكثف الولايات المتحدة جهودها الدبلوماسية لفرض الالتزام بخطة وقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد…

7 ساعات ago

خامنئي يتحدى ترامب ويرفض عرض الحوار النووي

رفض الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي اليوم الاثنين عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب…

7 ساعات ago

الإمارات تواجه الظل: النيابة العامة تحيل عصابة منظمة للمحاكمة

أحالت النيابة العامة لدولة الإمارات تسعة متهمين إلى المحاكمة بعد ثبوت تورطهم في تشكيل عصابة…

8 ساعات ago

غزة على حافة الانفجار.. مبعوثا ترامب يحاولان إنقاذ الهدنة

وصل المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر إلى إسرائيل اليوم الاثنين،…

9 ساعات ago

ترامب: وقف النار في غزة مستمر رغم الغارات

رغم إعلان وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة بين إسرائيل وحماس، تصاعدت التوترات…

9 ساعات ago

“بينانس” تحت المجهر الفرنسي في حملة غسل أموال

توسّع السلطات الفرنسية نطاق إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لتشمل منصات تداول العملات المشفرة،…

9 ساعات ago