Categories: آراء

الواقعية والغرابة في مأساة غزة

بكر عويضة

رغم أن كل الذي كانت ترى الأعين، ولا تزال، وما سمعت الآذان، ولم تزل، ينم عن واقع مأساوي أخذ يتدحرج في مُدن وقُرى قطاع غزة، منذ فجر اليوم التالي لِما أُعْطيَ اسم «طوفان الأقصى»، ثم طفق يكبر كما كرة ثلج من لهب مستعر بقذائف حِمم تُلقى من السماء فوق رؤوس مدنيين عزل من أي سلاح، بينهم أطفال ونساء ورجال، هائمين كلهم، زائغة أبصارهم، تتخبط أقدامهم في كل طريق تُمسك بأوله، ولا تعرف آخره، تلفح وجوههم نار حيرة التيه، والخوف من الضياع، غير مدركين ما وِجهتهم بالضبط، وإلى أين سوف تأخذهم الأقدار، بعدما انصاعوا لأمر المُحتل الظالم، المعتدي الآثم، بالنزوح من شمال القطاع إلى الجنوب… رغم كل ذلك الواقع المؤلم، فإن «التراجيديا» الغزاوية لم تخلُ من مشاهد «سُريالية»، الأرجح أنها لفتت أنظار ذوي الأبصار الراصدة، والأسماع اللاقطة، بين جمهورها، خصوصاً المتابعين لها لأنهم جزء منها، ولو كانوا مغتربين بعيداً عن أهلهم المكتوين بحميمها.

لكن الأرجح أن تلك الغرابة لم تُثر اهتمام فلسطينيين وعرب امتهنوا التنظير والتحليل، ولا الفلسطينيين والعرب من قادة الأحزاب والحركات، المتكئين على أرائك نعيم الأمان في مختلف العواصم بمشارق الأرض ومغاربها. أَمَا من أمثلة على ذلك؟ بلى، هذا أحدها، وأعلم مُسبقاً كم سوف يستغرب البعض استغرابي مشهداً واقعياً، لكنه بدا في منتهى الغرابة كذلك. هنا التفاصيل:

المكان: قلب مدينة غزة. الزمان: الأحد الماضي. الحدث: بدء سريان المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة «حماس» وإسرائيل. الحركة تطلق سراح 3 نساء إسرائيليات كنّ مع رهائن ذلك «الطوفان» الكاسح، الذي أصاب غزة بِكُساح لا أحد يعلم متى تنهض من شلل تأثيره، مقابل إطلاق سراح 90 فلسطينياً من الزنزانات الإسرائيلية. تطوّق قواتٌ تضم بضع عشرات من «كتائب القسام» سيارة الرهينات الثلاث… عناصر القوات يرتدون اللباس العسكري، وحولهم غابة من أعلام «حماس» الخضراء. يبدو للمشاهد المُدقق النظر أن لباس العناصر نظيف جداً، مَكْوِيٌ تماماً، ليس يعلوه أي غبار، كأنه لم يُلبس من قبل، وكذلك الأعلام، كأنما يُلَوَّح بها لأول مرة. يَلُوح لي سؤال سوف يزعم البعض أنه تساؤل خبيث. ليكن، مهمة الصحافي أن يسأل ثم يتحمل كل أنواع التُهم. السؤال هو التالي: هل يعني هذا المشهد أن حركة «حماس» تُوجِّه رسالة إلى المعنيين في جميع أنحاء العالم، مضمونها أن احتياطيها من المقاتلين كبير، ويتمتع بحيوية ولياقة… وملابس نظيفة، وأن شطبها من المعادلة ليس سهلاً؟

ذلك جواب محتمل عن تساؤل مبرر، حتى لو لم يُحتمل من قبل أي عقل متحمس لحركة «حماس» أكثر من قادتها أنفسهم. كثيرة هي مشاهد الغرابة في مأساة غزة وأهلها، لكن صورَ القافلين رجوعاً من خيام الجنوب إلى دمار بيوتهم في الشمال أكثرُ من «سريالية»، رغم كل ما يحمل من واقع الجحيم الغزاوي. تُرى هل وضعت حرب غزة أوزارها حقاً؟ كلا، ثم كلا. ولتكرار النفي هنا أكثر من سبب موضوعي، ربما يتناولها مقال أربعاء مقبل.

نقلا عن الشرق الأوسط

web master

Share
Published by
web master

Recent Posts

وقف النار في غزة على المحك: هل تنجح واشنطن في منع انفجار جديد؟

تكثف الولايات المتحدة جهودها الدبلوماسية لفرض الالتزام بخطة وقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد…

3 ساعات ago

خامنئي يتحدى ترامب ويرفض عرض الحوار النووي

رفض الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي اليوم الاثنين عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب…

3 ساعات ago

الإمارات تواجه الظل: النيابة العامة تحيل عصابة منظمة للمحاكمة

أحالت النيابة العامة لدولة الإمارات تسعة متهمين إلى المحاكمة بعد ثبوت تورطهم في تشكيل عصابة…

4 ساعات ago

غزة على حافة الانفجار.. مبعوثا ترامب يحاولان إنقاذ الهدنة

وصل المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر إلى إسرائيل اليوم الاثنين،…

5 ساعات ago

ترامب: وقف النار في غزة مستمر رغم الغارات

رغم إعلان وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة بين إسرائيل وحماس، تصاعدت التوترات…

5 ساعات ago

“بينانس” تحت المجهر الفرنسي في حملة غسل أموال

توسّع السلطات الفرنسية نطاق إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لتشمل منصات تداول العملات المشفرة،…

5 ساعات ago