عناصر من قوات الدعم السريع في السودان
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
في وطنٍ تتنوّع أرضه، وتتعدّد ملامحه بين البحر والصحراء والجبل والنهر، كأنّ الخالق أراد له أن يكون لوحةً منسجمة لا ينقصها إلا العدل ليكتمل جمالها. لكن حين غابت الدولة العادلة، اختلّ الميزان، فصار الغِنى لعنةً، والتنوّع عبئًا، والاتساع تمزّقًا. لم نفشل في الموارد ولا في الطبيعة، بل في إدارة الإنسان لوفرةٍ لم يُحسن تحويلها إلى وحدة.
ومنذ الاستقلال، ظلّ السودان يعيش في مدارٍ ضيّقٍ حول مركزٍ واحدٍ تضخّم حتى صار يبتلع سائر البلاد، مركزٍ يزدحم بالفقر كما يزدحم بالحلم. نزح إليه الناس من كل صوبٍ لأنّ الأقاليم جُفِّفت من التنمية، وهُجرت مشاريعها الزراعية والصناعية، وتحوّل الريف إلى أطلالٍ منسيّة.
في العاصمة، تتكدّس الأرواح والمباني، وتضيع الطاقات بين البطالة والانتظار. تُشيَّد العمارات وتُهدم المصانع، يُزرع الإسمنت ويُهمَل الإنسان، حتى صار الاقتصاد حبيس المظاهر لا المنتج، فغدت الخرطوم مرآةً لعجزنا عن التوازن بين اتساع الوطن وضيق الوعي.
هذا التضخّم العشوائي ليس مجرّد خللٍ عمرانيّ، بل هو علامةٌ على انهيار مفهوم الدولة المتوازنة. فالخرطوم التي تزدحم فيها المكاتب والوزارات، وتُستهلك فيها الكهرباء والوقود والخبز أكثر من أيّ ولاية، تلتهم ميزانية البلاد دون أن تُنتج ما يوازي ما تستهلك. أصبحت العاصمة مرآةً لانحراف الوعي التنموي، حيث يُقاس التقدّم بعدد الأبراج لا بمستوى الإنتاج، وبعدد المهاجرين إليها لا بعدد الذين استقرّوا في قراهم. وهكذا تحوّلت المدينة من مركز إدارةٍ إلى مركز استنزافٍ، ومن حاضنةٍ وطنيةٍ إلى وعاءٍ يفيض بالسخط واللامساواة.
وفي الشرق، يلتقي البحر بالجبال في صمتٍ يختزن الغُبن القديم. أرضٌ غنيةٌ بالموانئ والثروات، فقيرةٌ في نصيبها من التنمية. أمةٌ ظلّت تراقب خيراتها تُحمَل إلى الداخل دون أن تعود إليها بشيءٍ من العدالة. غياب التنمية والتمثيل جعل من الشرق منطقةً يغمرها الإحساس بالإقصاء، رغم أنه بوابة البلاد على العالم. إنّ حلّ الشرق لا يكمن في الاتفاقات السياسية ولا في إغداق المناصب، بل في تمكين إنسانه من إدارة موارده وتحصين هويته في إطار الوطن، لا على حسابه.
وفي الغرب، تتراءى دارفور كجرحٍ مفتوحٍ على الذاكرة. أرضٌ تتقاطع فيها القبائل والعادات والحواكير، تحوّل التنوع فيها إلى صراعٍ على الأرض والماء، لأنّ الدولة لم تُحسن إدماج العُرف في القانون، ولا تحويل الأرض من مجالٍ للتملّك إلى مجالٍ للعيش المشترك. إنّ العدالة في دارفور ليست في محاكماتٍ عسكريةٍ، ولا في تقاسمٍ هشٍّ للسلطة، بل في ترميم العلاقة بين الأرض والإنسان، وفي تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في صنع القرارات التي تمسّ حياتها اليومية. لو أنّ العدالة سبقت الجيوش، لما تحوّلت الأرض إلى ساحة دمٍ طويلة.
أما الشمال، فقد طُعن في خاصرته باسم التنمية. التعدين العشوائي دمّر البيئة، وتلوّثت التربة والمياه، وتبدّدت الأراضي الزراعية التي كانت تنبض بالحياة على ضفاف النيل. ولم يجد أهل الشمال في الدولة حاميًا، بل غائبًا أو متواطئًا. الحل هناك يبدأ بإعادة تعريف مفهوم الثروة، فليست المعادن وحدها ثروة، بل الإنسان أيضًا، والتراث، والبيئة التي تُنبت الحياة. التنمية التي تُفقر الأرض ليست تنمية، بل استنزافٌ مؤجّل.
أما جبال النوبة، فهي المدى الذي تتجسّد فيه معضلة الهوية السودانية. تنوّعٌ دينيٌّ وثقافيٌّ فريد، صهرته الحروب والتمييز في بوتقةٍ من المعاناة والصمود. ظلّت الجبال شاهدةً على التناقض بين خطاب الوحدة وممارسة الإقصاء، بين الشعارات القومية والواقع الذي يحرم سكانها من أبسط الخدمات. والحقيقة أنّ الحرب هناك لم تكن خيارًا، بل احتجاجًا على غياب الدولة العادلة. ولا سبيل للسلام في جبال النوبة إلا بإعادة صياغة الدولة لتكون حاميةً للتعدد، لا قاهرةً له، وأن يُمنح الإنسان هناك حقه في أن يكون مختلفًا دون أن يكون متَّهَمًا.
وفي النيل الأزرق، ينبع الماء وتغيب العدالة. موارد هائلة من الزراعة والمياه، لكن التنمية متعثّرة، والصراعات تتجدّد على خلفية الشعور بالتهميش الثقافي والاقتصادي. إنّ النيل الأزرق ليس هامشًا للبلاد، بل مركزها المائي والغذائي، ومع ذلك ظلّ بعيدًا عن دائرة القرار. ولا يمكن لهذه المنطقة أن تزدهر إلا إذا صارت نموذجًا للتنمية التشاركية التي تدمج السكان في إدارة مواردهم وتوزيع عائدها بعدالة.
وفي الجزيرة، تتجسّد مأساة المشروع الوطني في أوضح صورها. المشروع الذي كان يومًا نموذجًا للتنظيم والإنتاج، انهار حين غاب الوعي بأنّ التنمية ليست أرقامًا في دفاتر، بل علاقةً بين الإنسان والأرض. تحوّلت الجزيرة من سلة غذاءٍ إلى مساحةٍ من البطالة والخيبة، لأنّ الإدارة تحوّلت إلى سلطةٍ، والمنتج إلى تابع. إنّ نهضة الجزيرة اليوم تتطلّب إعادة بعث مشروعها الزراعي على أسسٍ جديدةٍ تراعي العدالة بين المزارع والدولة، وتستعيد روح الجماعية التي ميّزت التجربة الأولى.
وفي كردفان، يلتقي الشمال بالغرب والوسط، وتُختزل فيها كلّ تناقضات السودان. تنوّعٌ غنيٌّ في الطبيعة والبشر، لكنه مهدَّدٌ بالإهمال وتراجع الخدمات. لم تُعطَ كردفان ما تستحق من البنية التحتية رغم غناها بالثروة الحيوانية والزراعية. إنها تختزن إمكان أن تكون مركزًا للإنتاج الوطني إن أُحسن توظيف مواردها وربطها بالأسواق بطرقٍ مستدامة، دون استنزافٍ بيئي أو استعلاءٍ إداري.
العاصمة القومية، بدلًا من أن تكون قلبًا يوزّع الدم على الجسد، تحوّلت إلى مركزٍ يمتصّ الحياة من الأطراف. تتّسع الخرطوم عمرانًا وتضيق روحًا، بينما تتكدّس الناس في أحياءٍ عشوائيةٍ لا تملك غير الانتظار. هذا التمدد غير المخطّط ليس سوى صورةٍ لمأزق الدولة نفسها: تتّسع في الشكل وتفرغ في المعنى. إنّ إصلاح الخرطوم لا يكون بهدم الأحياء، بل بإعادة توزيع الحياة نفسها على الأقاليم. فحين تُعاش العدالة في المدن الصغيرة، يقلّ التكدّس في المدينة الكبيرة، وحين تُخلق فرص العمل في الأطراف، يتوازن الوطن تلقائيًا.
إنّ إعادة بناء الوطن لا تحتاج إلى معجزةٍ خارقة، بل إلى وعيٍ جديدٍ بالعدل كقوةٍ خفية تربط أطراف البلاد بمركزها، وتمنح الجغرافيا معناها الإنساني. فالتنمية لا تُشيَّد فوق الفقر، بل تبدأ من اقتلاعه، والاقتصاد لا يزدهر بالمواد الخام وحدها، بل بالإنتاج المستدام الذي يصل الزراعة بالصناعة، ويوازن بين الربح والعدالة الاجتماعية. والتعليم ليس دروسًا تُلقَّن، بل نورًا يُغرس في الضمائر لتطهيرها من الكراهية والعصبية، وبناء وجدانٍ وطنيٍّ يتّسع للجميع.
وحين تصبح القوانين مرآةً لهذه الرؤية، تُجرِّم التمييز، وتصون الحرية، وتحمي الثروة، وتضع الإنسان أولًا في كل قرار، يبدأ السودان مسيره نحو السِّلم الحق؛ فالسِّلم ليس توقيعًا بين زعماء، بل تربيةٌ يوميةٌ للضمير. وإدارة التنوع ليست كبتًا للاختلاف، بل تحويله إلى طاقةٍ خلاقة. فالوطن لا يُدار بالقوة بل بالعقل، ولا يُبنى بالأوامر بل بالعدل. ولن ينهض السودان بعاصمته وحدها، ولا بذهب شماله أو زرع جزيرته أو ميناء شرقه، بل حين ينهض الوعي في كل بيت، ويؤمن كل مواطنٍ أننا شركاء في المصير، لا متنافسون على الغنيمة.
في تصعيد جديد بين حماس وواشنطن، ردّت الحركة على بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي زعم…
تصاعدت التوترات في غزة مجددًا بعد أن شنت الطائرات الإسرائيلية سلسلة غارات على رفح وجباليا،…
كشفت تقارير أميركية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قدّم عرضًا مفاجئًا لنظيره الأميركي دونالد ترامب…
تعيش الكوت ديفوار على وقع سباقٍ انتخابيٍّ محمومٍ، تحيط به أجواء مشحونة بالتوتر والدعاية السياسية…
أفادت تقارير إخبارية ومسؤولون أمنيون أن هاكرز مجهولين نفّذوا عملية اختراق غير مسبوقة استهدفت أنظمة…
قال المهاجم الإنجليزي السابق دارين بنت إن النجم المصري محمد صلاح وقع ضحية للمعايير الخارقة…