أنور الهواري
نبدأ من الاعتراف الأمين مع أنفسنا بأن مصر تعيش على جميع المستويات حقبة تراجع حضاري، تراجع موضوعي غير مرتبط بأشخاص، تراجع وصلنا إليه عبر مرحلة طويلة من الزمن. هذا التراجع يعني أن استجابتنا لما هو مطروح علينا من مهمات وتحديات أقل بكثير من المطلوب.
لقد بذلنا الكثير من المحاولات عبر أكثر من مائتين وخمسة وعشرين عامًا، من عهد محمد علي باشا حتى يومنا هذا، ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاث فترات متساوية، كل منها ثلاثة أرباع قرن:
- الفترة الأولى: من الباشا حتى الخديو إسماعيل.
- الفترة الثانية: من الخديو توفيق حتى الملك فاروق.
- الفترة الثالثة: من إعلان النظام الجمهوري حتى يومنا هذا.
في الفترة الأولى، صعدت مصر مرتين؛ الأولى مع الباشا الذي أسس إمبراطورية حقيقية دون أن يستلف مليماً واحدًا، والثانية في نهاية عهد الخديو إسماعيل، حين أسس إمبراطورية مصرية في أفريقيا. لكن أوروبا أسقطت التجربتين: مرة بحجة الدفاع عن السيادة العثمانية في حالة الباشا، ومرة بحجة مستحقات الدائنين في حالة الخديو. كانت أوروبا في ذروة مشروعها الاستعماري، ولم يكن هناك مفر من إسقاط أي نهضة مصرية، ولم يكن بديل عن احتلال مصر، سواء من فرنسا أو بريطانيا.
جاء الاحتلال إلى بلد كان قد قطع شوطًا محترمًا على طريق التحديث. كانت مصر عند نهاية هذه الفترة واحة للتنوير والنهضة، تنافس تركيا وتتفوق على إيران كثيرًا. يكفي أن نذكر من ثمرات هذه المرحلة ثلاثة عظماء من أبناء الفلاحين: رفاعة الطهطاوي، علي باشا مبارك، والأستاذ الإمام محمد عبده.
في الفترة الثانية، وقعت مصر في قبضة الاحتلال لمدة خمسة وسبعين عامًا، لكنها كانت جاهزة للتحدي. ثارت ثلاث مرات: مع عرابي باشا، ثم مع سعد باشا، ثم مع الضباط الأحرار. استفز الاحتلال مصر فأخرجت أفضل ما فيها من نبوغ وعبقرية وصلابة ووطنية.
أنجبت مصر في هذه المرحلة حشدًا من النوابغ والعباقرة في كل المجالات، لم تنجب مثلهم أمة أخرى في الإقليم. أنتجت مصر أفضل مؤسسات العمل الخيري، أفضل الجامعات، أفضل منظومة قضاء، أفضل صحافة، وأكفأ بيروقراطية. كان المصريون يحاربون الاحتلال بسلاح التفوق والنبوغ، ويدفعون مصر على طريق التمدن.
صنعت مصر هويتها الحديثة، شيدت المؤسسات، تمرنت على الديمقراطية، وتدربت على احترام معايير وشروط التقدم. كانت مصر عند منتصف القرن العشرين نقطة إنارة واستنارة، من نقاط نادرة جدًا خارج نطاق أوروبا الغربية.

