
من الصين
فالميديا
بحلول عام 2049 ستكون جمهورية الصين الشعبية قد أتمت المئة عام الأولى على تأسيسها بعد اندلاع الثورة الصينية بقيادة الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ عام 1949. الثورة التي أنهت قرنا كاملا من التدخلات الأجنبية يسميه الصينيون “قرن الإهانة”.
ويكتسب عام 2049 أهمية خاصة في الخطاب السياسي الصيني وفي الخطط الإستراتيحية للدولة، وهو العام الذي من المفترض أن ينتهي فيه إنجاز أهداف مبادرة “الحزام والطريق” التي تعد أداة الصين الرئيسية لاكتساب الحضور والنفوذ في المسرح العالمي، ومن ثم يذهب كثير من الباحثين إلى أن 2049 سيكون نهاية “قرن الانطلاق” الصيني وبداية “قرن الهيمنة”، أو على الأقل فإن الصين تخطط لذلك.
ويتسق هذا مع ما بشر به الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بعد أشهر من توليه الرئاسة في مارس 2013، حينما أعلن عن دخول الصين حقبة جديدة، أطلق عليها اسم “الحلم الصيني”، رافعا شعار “التجديد العظيم للأمة الصينية”.
وقد تمثل حلم “شي” في إستراتيحية قومية جديدة تؤهل لصعود الصين بوصفها دولة مزدهرة وقوية، لينافس الحلم الصيني الوليد “الحلم الأميركي” القديم الذي يعتبرونه آخذا في الأفول جنبا إلى جنب مع القوة الأميركية.
ويشير تقرير، أعده “معهد بروكينغز” الأميركي للأبحاث عام 2020، إلى أن الصين تسير بخطى واثقة نحو تحقيق رؤيتها لعام 2049، خاصة فيما يتعلق بأن تصبح قوة اقتصادية رائدة على مستوى العالم، ويفيد التقرير أن الطموح المتزايد لبكين يدلل في الوقت ذاته على أن الصين لم تعد تقبل بلعب دور إقليمي داعم داخل النظام الدولي الليبرالي كسابق عهدها، بل تتطلع اليوم لمنافسة الزعامة الأميركية العالمية.
لكن طموح بكين لا يتوقف عند التفوق الاقتصادي فحسب، بل ثمة مؤشرات على أن طموحها يمتد ليشمل الجانب العسكري أيضا، هذا ما أشار إليه تقرير نشرته “مؤسسة كارنيغي” للسلام الدولي عام 2020، إذ تناول محاولات بكين فرض النفوذ على الممرات المائية قبالة سواحل الصين، وهو ما وصفه التقرير بتطلعات جيوسياسية تسعى من خلالها بكين إلى اتخاذ تفوقها في محيطها الإقليمي ليكون بمثابة نقطة ارتكاز تنطلق منها لتصبح قوة رائدة عالميا.
وهذا إلى جانب مساعي السيطرة على صناعات التكنولوجيا الفائقة، وخطوات ثابتة نحو بناء تحالفات سياسية ودبلوماسية حول العالم لمنافسة نظام التحالفات الذي أسسته الولايات المتحدة الأميركية في عقود هيمنتها المنفردة.
وفي إطار تحقيق هذا الهدف، تعمل الصين على تطوير “ثالوث نووي” مماثل لأنظمة القوة النووية متعددة الأبعاد التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتي تمتاز بقدرتها على إطلاق صواريخ باليستية برا وبحرا وجوا، بما يسهم في تحقيق ردع نووي فعال في حالات النزاعات العسكرية، بحسب تحقيق نشره موقع الجزيزة.
وفي يناير الفائت، نشر اتحاد العلماء الأميركيين تقريرا مطولا يناقش فيه التوسع النووي الصيني، الذي وصفه بأنه أحد أكبر حملات التحديث بين الدول التسع المسلحة نوويا. ويكشف التقرير عن الوتيرة المتسارعة التي تنتهجها الصين لتعزيز ترسانتها النووية بشكل يتجاوز توقعات المسؤولين الأميركيين، الأمر الذي ينبئ ببداية عصر جديد للتسلح النووي، وهو ما حذر منه التقرير السنوي الذي تعده وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حول القوة العسكرية الصينية، ونُشر في أكتوبر من عام 2023.
والأهم، بحسب التقرير الأخير، أن بكين لم تقتصر على تعزيز قدرات جيش التحرير الشعبي وفقا لاستراتيجيتها المعلنة في إطار “الدفاع عن النفس”، بل تجاوزت ذلك بكثير، حيث يُعتقد أنها ركزت على تحليل نقاط الضعف في نظام العمليات الأميركي، وقامت بتطوير أنظمة مصممة لمهاجمتها.
يسود اعتقاد لدى الصينيين أن مأساة “قرن الإهانة” الصيني كانت ناجمة عن ضعف القوة البحرية الصينية، فلم تُهاجَم الصين إلا بحرا، ولم تُهزم إلا من قوى آتية عبر البحر، كما حدث مع الأسطول البريطاني في حرب الأفيون، بينما استطاعت إلحاق الخسائر بخصومها عندما كانت المواجهات على البر. ومن ثم تُولي الصين أهمية قصوى بتطوير ترسانتها البحرية، خاصة أن القوة الرئيسية المهيمنة على العالم الآن هي قوة بحر بالأساس.
وأشار تقرير حديث نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية في نوفمبر 2023 إلى أن منطقة غرب المحيط الهادئ أصبحت أكثر خطورة على غواصات البحرية الأميركية، وذلك بعد أن قامت بكين بإنشاء العديد من شبكات الاستشعار تحت الماء في بحر الصين الجنوبي ومناطق أخرى على طول الساحل الصيني، والتي أطلقوا عليها اسم “سور الصين العظيم تحت الماء”.
وإجمالا، فقد استطاعت بكين تعزيز المكون البحري في “الثالوث النووي”، حتى أصبح الأسطول الصيني اليوم يتجاوز الأسطول الأميركي من حيث عدد السفن.
وما يبدو هو أن حالة الغموض والارتباك التي تكتنف إستراتيجية بكين هي عمل منظم ومقصود بدقة، إذ تسعى للتسلل بأكبر قدر ممكن من الهدوء لتملأ كل الفراغات التي يخلفها التراجع الأميركي المحتمل، والاستعداد لحالة الانتقال المتوقعة في هيكل القوة داخل بنية النظام الدولي، لتعود الصين كما يراها أهلها “مركز العالم” وأصل حضاراته.