بينما تنغمس أميركا في صراعات الشرق الأوسط بلا طائل، كان الصبر الاستراتيجي الصيني يرسم ملامح نظام دولي جديد، يتجاوز الهيمنة الأميركية ويعيد تعريف موازين القوة
الحزام والطريق: سلاح الصين الناعم
منذ نهاية الحرب الباردة، تبنت الصين نهج “الصبر الاستراتيجي” الذي يقوم على التحديث الاقتصادي والعسكري والمشاركة المتعددة الأطراف. وتجلت هذه الاستراتيجية في مبادرة الحزام والطريق التي ربطت آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بشبكة استثمارية وتجارية، تمكّن الصين من فرض نموذجها التنموي وتجاوز المؤسسات التي تهيمن عليها واشنطن.
وبينما كان الناتج المحلي للصين عام 1992 لا يتجاوز 367 مليار دولار، قفز إلى أكثر من 20 تريليون دولار اليوم، مقابل 30 تريليون لأميركا، ما مكن بكين من تمويل تحديث عسكري متسارع.
من بحر الصين إلى البريكس.. نهاية الأحادية
تتمدد الصين عسكريًا في بحر الصين الجنوبي وتساهم في إنشاء نظام عالمي بديل عبر تحالفات مثل البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وبنوك التنمية البديلة. هذه الأدوات لا تُنافس فقط، بل تهدد بتفكيك بنية النظام الليبرالي الأميركي الذي تشكل منذ نهاية الحرب الباردة.
الهيمنة الأميركية تنهار في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط
استراتيجية أميركا الكبرى بعد 1991 قامت على منع أي قوة من الهيمنة على منطقتها الحيوية، لكن الناتو فشل في احتواء روسيا، وبدلًا من تحجيمها، انفجر الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بات يميل لصالح موسكو.
في الصين، فشلت واشنطن أيضًا. إذ لم يتحول النظام إلى الديمقراطية رغم الانفتاح الاقتصادي، بل زادت بكين قوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، في ما يشكل كارثة استراتيجية لواشنطن.
البترودولار تحت التهديد: الخليج يبتعد عن أميركا
الشرق الأوسط، الركيزة الثالثة للهيمنة الأميركية، بدأ يتفلت من السيطرة. السيطرة على نفط الخليج كانت هدفًا للحفاظ على هيمنة الدولار عالميًا عبر البترودولار. لكن مغامرات واشنطن بعد 11 سبتمبر، ثم هزيمتها في العراق وأفغانستان، أطاحت بهذه الاستراتيجية.
والأخطر: السعودية وإيران وتركيا باتت أقرب إلى الصين وروسيا في تحالفات جديدة تهدد مركزية الدولار في النظام المالي العالمي.
إسرائيل.. الحليف المكلف
دعم واشنطن اللامحدود لإسرائيل، خصوصًا بعد هجوم 7 أكتوبر، عمّق تراجعها الأخلاقي والاستراتيجي عالميًا. يرى محللون أن مشهد الإبادة في غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” أسقط ورقة التوت عن “الديمقراطية الأميركية”، وقوّض مكانة إسرائيل باعتبارها الحليف الذي لا يُقهر.
ورغم آلة القتل الهائلة، لا تزال حماس تقاوم، والمقاومة الفلسطينية تدير حرب استنزاف أرهقت الجيش الإسرائيلي وزادت الشرخ الداخلي. إسرائيل لم تحقق “النصر الكامل”، والولايات المتحدة تدفع ثمن فشل استراتيجيتها الردعية.
لحظة التحول التاريخي.. النظام العالمي الجديد يتشكل
كل المؤشرات تؤكد أن النظام العالمي يدخل مرحلة ما بعد الهيمنة الأميركية. الصعود الصيني، والتحالفات الدولية البديلة، وهزائم أميركا المتكررة، وتآكل صورة إسرائيل، كلها عوامل تعزز انتقال القوة شرقًا.
الصين لا تزال حذرة في خطواتها، لكن ساعة التحول قد بدأت تدق.
لندن – اليوم ميديا