الأربعاء 30 أبريل 2025
لقطة الشاشة 2025-03-21 في 11.25.20 ص

احتجاجات في اسطنبول يوم 19 مارس

حلمي النمنم

شهدت مدينة إسطنبول وعدد آخر من المدن التركية احتجاجات واسعة، منذ إلقاء القبض على عمدة إسطنبول واعتقاله، يوم الأربعاء الماضى ومعه أكثر من مائة شخص بينهم بعض مسؤولى البلدية فى إسطنبول.

العمدة «أكرم إمام أوغلو»، جاء إلى موقعه بالانتخاب، هو ينتمى إلى حزب الشعب الجمهورى، الحزب المعارض والمنافس القوى لحزب العدالة والتنمية الذى ينتمى إليه الرئيس أردوغان.

السلطات التركية عللت اعتقال العمدة بأنه متورط فى قضايا فساد واستغلال نفوذ، لكن أنصاره يشككون فى الاتهام، بل راحوا يذكرون وقائع فساد عديدة أثيرت منذ سنوات ليست بعيدة ولم يتم اتخاذ إجراءات بخصوص من مستهم تلك الوقائع، خاصة الواقعة التى ورد فيها اسم نجل الرئيس.

أنصار العمدة يرون أنها محاولة لإبعاد أوغلو من المنافسة السياسية وتلطيخ سمعته، خاصة أن نجمه يرتفع، فهو فى منتصف الخمسينيات من العمر، نجح مرتين فى الانتخابات، حدث أن تم التشكيك فى الانتخابات الأخيرة من قبل حزب العدالة وأعيدت فكان الفوز حليفه، الواضح أن لديه كاريزما خاصة والحزب يجهزه لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، لن يكون أردوغان منافسًا فيها، لم يعد لديه حق الترشح، أى أن أوغلو قد تكون لديه فرصة كبيرة كى يصبح رئيسًا للجمهورية التركية.

من الوارد كذلك أن يكون «حزب الشعب الجمهورى» رأى فى القضية محاولة لتدمير سمعة واسم الحزب برمته، بما يعجزه عن خوض أى منافسة قادمة؛ لذا استنفر كوادره ودعاها للتحرك فى الشارع.

المختصون فى الشأن التركى يرون أن ما يجرى ليس بعيدًا عن حالة الاحتدام المذهبى فى بعض دول المنطقة بالجوار التركى، خاصة فى سوريا ولبنان.

فى سوريا اشتد الاحتدام مع مذابح الساحل، حيث الأغلبية من العلويين والذين هاجموهم ينتمون إلى تنظيم «سنى» متشدد، على الحدود اللبنانية كر وفر بين أفراد من سوريا ينتمون إلى الإدارة الجديدة فى مواجهة أعضاء من حزب الله، فى الخلفية الإحن المذهبية وثارات قديمة.

هذا كله ترك أصداء فى تركيا، حيث يساند الرئيس الإدارة الجديدة فى سوريا منذ تحركهم فى إدلب يوم 28 نوفمبر الماضى.

عمدة إسطنبول هو مسلم «علوى»، بينما الرئيس معروف عنه الانحياز لجماعة حسن البنا، هذا كله أجج النفوس.

والكثير من العلويين لديهم شعور طاغ بالمظلومية التاريخية والروح الكربلائية؛ لذا أثار ما وقع فى الساحل السورى لديهم، سواء فى سوريا أو تركيا وفى أى مكان، مشاعر الحزن والقلق العميق ومكامن المظلومية، أى إنسان لديه إحساس بالمظلومية فى أى مجال يكون مستنفرًا نفسيًا وشعوريًا، لديه استعداد للغضب السريع، قد يصبح غضبًا خارج أى سيطرة نفسية، هناك غضب مصحوب بالصبر، لكن غضب المظلومية متأجج دائمًا.

حزب الشعب الجمهورى- تاريخيًا- يتجنب الانغماس فى المشاكل والأزمات الداخلية للبلاد العربية، يرون أنهم يجب أن يكونوا أقرب إلى أوروبا والغرب عمومًا، هم فى ذلك أقرب إلى مؤسس تركيا الحديثة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، الذى تخلص من الحمولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، معلنًا القطيعة مع التاريخ العثمانى فى هذا الجانب، لكن حزب العدالة يعمل على إنهاء تلك القطيعة، ومن أسف أنه بدأ باحتضان المجموعات التى بنت مشروعها على لعن وتكفير أتاتورك.

المظاهرات الضخمة، فى المدن التركية، اقتضت من السلطات الأمنية استعمال أدواتها من إلقاء القبض على بعض الأشخاص الذين رأت أنهم يتجهون نحو أعمال العنف والشغب فضلًا عن حماية المؤسسات والمنشآت العامة من أى احتمال للمساس بها، كل هذا متوقع ولا غرابة فيه.

الرئيس التركى بعد أيام من الصمت، علق على المظاهرات بتصريحات، أبرزها أن بلاده «لن تخضع لإرهاب الشارع». قال أيضًا «لم نذعن للإرهاب فى الشوارع ولن نذعن للتخريب»

ذلك توصيف جديد لمظاهرات احتجاج على اعتقال مسؤول.

عرفت أسماعنا فى توصيف المظاهرات كلمات مثل «القلة المندسة».. الطرف الثالث.. البلطجية.. الحرامية، الرئيس السادات أطلق على مظاهرات 18 و19 يناير سنة 1977 «انتفاضة الحرامية».

لا يتوقف الأمر على بلادنا ومنطقتنا فقط، حتى فى بريطانيا نفسها، حين قامت مظاهرات فى لندن سنة 2003، تحذر رئيس الوزراء تونى بلير والرئيس بوش الابن من ضرب العراق، قيل وقتها عن متزعم المظاهرات «جورج جلاوى» وكان عضوًا فى مجلس العموم أنه تلقى تمويلًا من الرئيس العراقى صدام حسين، نشرت بعض الصحف تلك المزاعم الرسمية، فيما بعد وأمام القضاء تبين عدم صحة ذلك الاتهام.

يبدو أن الحكومات البريطانية دائمًا تركز على الاتهام بالتمويل. حين هب المصريون فى مظاهرات سنة 1919، طلبًا للاستقلال، أعلنت السلطات البريطانية أن المظاهرات تتم بتمويل ألمانى، رغم أن ألمانيا وقتها كانت لا تزال تلعق هزيمتها المريرة فى الحرب العالمية الأولى وكانت مأزومة جدًا فى دفع تعويضات الحرب التى فرضت عليها.

ومنذ العدوان على الشعب الفلسطينى فى أكتوبر قبل الماضى، وصف أنصار إسرائيل فى الولايات المتحدة ودول الغرب المتظاهرين ضد قتل الأطفال والنساء وعموم المدنيين فى غزة بأنهم «أعداء السامية».

الرئيس رجب طيب أردوغان يضيف إلى القاموس مصطلحًا جديدًا هو «إرهاب الشارع»، ما نعرفه أن الإرهاب قد يمارسه تنظيم ما أو جماعة بعينها، جماعة الحشاشين فى التاريخ العربى معروف للكثيرين ما قامت به، حاولوا اغتيال صلاح الدين أثناء حربه لتحرير القدس، أحداث الحادى عشر من سبتمبر سنة 2001 فى الولايات المتحدة نموذج تابعه العالم كله، على الهواء.

أحداث الأمن المركزى فى أسيوط سنة 1981، عقب اغتيال الرئيس السادات نموذج كذلك.

وقد يقوم به فرد.. «ذئب منفرد»، معظم دول العالم عرفت هذه الذئاب، من اغتيال غاندى فى الهند بسبب «تسامحه مع المسلمين»، واغتيال «شينزو آبى» فى اليابان وحتى محاولة اغتيال «دونالد ترامب»، العام الماضى حين كان مرشحًا فى مؤتمر انتخابى، ناهيك عن حوادث الدهس فى المدن الأوروبية، أما «إرهاب الشارع» فهو الجديد، وهو اتهام واسع فضفاض، لا يمس شخصًا بذاته ولا مجموعة أو جهة بذاتها، اتهام شائع قد لا يمس أحدًا لكن يمكن أن يذهب إلى أى أحد وقد يطال الجميع، الاتهام يذهب إلى «الكل»، خاصة حين يصدر الاتهام عن المسؤول الأول الذى يمتلك هيمنة فعلية على كل الجهات الرسمية أو معظمها على الاقل.

المشكلة الكبرى أن العالم لم يصل بعد إلى تعريف متفق عليه، لن نقول جامعًا مانعًا، لمفهوم ومعنى الإرهاب، وهذا ما أتاح له وصف المظاهرات بأنها إرهاب.

وهنا يمكن أن نتذكر- للتذكرة فقط- آراء سابقة للرئيس أردوغان سنة 2011، حين كان رئيسًا للوزراء وقامت المظاهرات فى عدد من الدول العربية، فكان أن ساندها ودعمها، ما رأى فيها إرهابًا ولا أنها تخريب، فوقف يناشد الرئيس حسنى مبارك- مثلًا- أن يستجيب للمتظاهرين وأن ينصت لأصواتهم، وفى حالة ليبيا والمظاهرات ضد معمر القذافى قال أكثر من ذلك بكثير.

المظاهرات فى تركيا سوف تمر، ربما مثل مظاهرات سنة 2013 فى ميدان تقسيم بإسطنبول، حيث أمكن احتواؤها، خاصة أن قناة «فوكس نيوز» أعلنت مساء الجمعة نقلًا عن مصدرين أن الرئيس دونالد ترامب يدرس إمداد تركيا بطائرات «إف 16» بل عاد الحديث مجددًا عن إمكانية إمداد تركيا بالطائرة «إف 35».. حدد ترامب شرطه للتصدير، هذا الإعلان فى هذا التوقيت يعد دعمًا قويًا للرئيس التركى، كان يمكن أن يكون موضوع تباحث بين الدولتين، أما أن يعلن هكذا، رغم أنه ما زال مجرد «تفكير».. الرئيس يفكر فهى رسالة للشارع التركى، أى أن أردوغان مازال له دور فيما يجرى بخصوص أوكرانيا وكذلك فى سوريا ، حيث لم تستقر الأمور بعد ويراد لها دوليًّا أن تستقر، ناهيك عن أن بعض قادة حماس يقيمون هناك فى تركيا، ربما يكونون نشطين فى التفاوض بين حماس والإدارة الأمريكية، وقد يكون لهؤلاء دور أكبر بعد انتهاء القتال. أما إذا ساءت الأمور بين إيران وإدارة ترامب وبلغت حافة تبادل الهجمات، فسوف يكون وجود الرئيس أردوغان مهمًّا؛ لذا تعامل العالم «الديمقراطى» مع ما يجرى فى إسطنبول باعتباره شأنًا داخليًا جدًا، الصحف والقنوات الكبرى لم تمنح أخبار المظاهرات أولوية.

نقلا عن المصري اليوم