
منظر عام من العاصمة القاهرة
مصطفى عبيد
فى يوم الأحد الموافق الرابع والعشرين من يونيو سنة ٢٠١٣، وبينما كانت الصحافة ووسائل الإعلام فى مصر منشغلة بدعوات التظاهر ضد حكم الإخوان، وكان الشباب يمر على المقاهى والأزقة لجمع توقيعات للدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، ووضع دستور توافقى، وقعت جريمة مروعة فى قرية هادئة من قرى مصر المنسية هى قرية زاوية أو مسلم، التابعة لمركز أبو النمرس بالجيزة.
بدأت الحكاية عندما أخبر أحد الأشخاص أهالى القرية بأن بيت فلان يستضيف داعية شيعى، زنديق اسمه حسن شحاتة، معروف بكفره، وحكم علماء الأمة بأنه وأمثاله أشد خطرًا على صحيح الدين من الصهاينة. انتقل الخبر من بيت إلى بيت، وخلال دقائق تجمع العشرات حول منزل المضيف، وتقدم أحدهم بهدوء لصاحب المنزل داعيًا إياه أن يُسلمهم المدعو حسن شحاتة دون مقاومة حتى لا يتعرض للأذى. وبطبيعة الحال فقد أبت شهامة ونُبل المضيف تسليم ضيفه، واتصل بجهات الأمن التى كانت منشغلة وبعيدة عن القرية المهمشة. وهكذا تسلح المجاهدون من العامة بالهراوات، وزجاجات المولوتوف، وجراكن الكيروسين ليهدموا جدار المنزل فى دقائق قليلة ويحرقوا البيت، ويخرجوا من فيه، وينفردوا بفريستهم ويسحلوه بصورة بشعة، وسط التكبيرات والتهليلات.
الفلاش باك يُخبرنا أن هذه الجريمة وغيرها من جرائم سفح دماء المختلفين عقائديًا بدأ التحضير لها مبكرًا، ومُنحت صكوك الشرعية الأولى خلال عهد الرئيس السادات، الذى اختار وتقبل لنفسه لقب الرئيس المؤمن، فى لفتة مُدهشة تدعو للاستغراب من أركان الدولة والنخبة التى وُثِّقت اللقب لدرجة تدوينه على بعض أعمال تجديدات المبانى، ونشره فى الصحف الحكومية. ورغم أنه نفسه راح ضحية خياره الانتهازى، فإن الرئيس حسنى مبارك، سلفه الأكثر حنكة، كرر التجربة لكن بنسخة أخرى، إذ استخدم التيار السلفى الممالئ لمواجهة التيار الجهادى الراديكالى، فقرّب وشجّع وساند إرهابيين ناعمين نددوا بعنف الجماعات المتأسلمة ليمارسوا عُنفا أشد ضد المبدعين وأصحاب الفكر، وسمح لهم بالتمدد فى القرى والنجوع والعشوائيات ليغرسوا رؤى تشع كراهية ونكرانًا وإقصاء لكل آخر.
يبدو هذا الخيط منسيًا رغم وضوحه، فى ظل العنف المتبادل بين نظام مبارك والجماعات الراديكالية المتأسلمة مثل الجهاد والجماعة الإسلامية والجماعات المنشقة عنها، غير أن باحثًا ذكيًا هو وائل لطفى تابع ذلك، وقرأه، وحلله بُعمق فى كتاب حديث صدر عن بيت الحكمة بعنوان «دعاة عصر مبارك.. سيرة التسعينات». لاحظ «لطفي» أن بعض رموز نظام مبارك لعبوا أدوارًا قوية فى السماح للجماعات غير المجاهرة بالعداء للدولة بالانتشار فى كل مكان بهدف ما يعرف بـ«أسلمة المجتمع من أسفل»، وهكذا تسلفنت البلاد ومَن عليها، وبدت خطورة الأمر فى استمراء البعض ممارسة إرهابه غير المسلح ضد المجتمع فى ظل إبداء الطاعة لولى الأمر. كان الأمر واضحًا فى إعلان شيخ متطرف عُرف بقضايا الحسبة ضد كاتب ومفكر هو يوسف البدرى، مبايعته للرئيس مبارك سنة ١٩٨٧ للإمامة العظمى بشرط تطبيقه للشريعة الإسلامية.
وبدا الأمر أكثر وضوحًا فى تحويل عبد الصبور شاهين لبحوث علمية قدمها أستاذ جامعى، هو د. نصر أبو زيد، للترقى، إلى فرصة لتكفيره وطرده من الملة، وصولًا إلى رفع يوسف البدرى وأنصاره دعاوى قضائية للتفريق بين الأستاذ الجامعى وزوجته بدعوى أنه مرتد.
فى تلك السنوات أيضًا وُلدت نجومية دُعاة النوادى والمجتمعات الراقية، لتلتمع أسماء لها وزنها، فُتِّحت لها المنابر، وخصصت لها القاعات الكبرى، من أمثال ياسين رشدى، وعُمر عبد الكافى، وغيرهما، وصولًا للمد السلفى الأكبر خلال التسعينات وما بعد الألفية الثالثة ليستحوذ على الجماهير شخوص غامضة يقودونهم يمينًا ويسارًا دون أى تحرك من الدولة.
لم تنطفئ جذوة النار المشتعلة تحت الرماد، وتسببت المهادنات والمواءمات الخلفية خلال عصر مبارك فى تمدد حُمى التطرف، والتدين الموجه، لتُهيمن على الساحة أفكار إقصاء لكل مختلف، وشرعنة تصفية الآخر، ورفض العقل والمنطق، وهو ما رأينا شواهده لاحقًا فى أحداث عدة.
ولا شك أن طرح وائل لطفى، وغيره من الدراسات بشأن التيار الدينى فى عهد مبارك يذكرنا أن المعركة مع الإرهاب فى بلادنا لم تنته بعد. صحيح أن جماعات زعزعة الأمن والخراب تفككت، وتبعثرت كوادرها بين السجن والمنفى، لكن الأفكار لها أجنحة كما يقولون، ومصر لم تبدأ بعد مشروعها الحضارى لفتح مدارات التفكير وتقبل الحوار والاجتهاد الدينى، وأبسط دليل على ذلك، تلك الغضبة المزعجة على رأى طرحه مفكر دينى مثل الدكتور سعد الهلالى.
إننا فى حاجة إلى مشروع دولتى قومى لفتح النوافذ أمام حرية الفكر والإبداع والعلوم، سعيًا لصناعة جيل جديد يتقبل الآخر ويرفض العنف.
والله أعلم.