
خالد عمر بن ققه
برحيل الدكتور هيثم الزبيدي ـ رئيس مجلس إدارة صحيفة” العرب” ورئيس تحريرها المسؤول، نكون على مستوى الإعلام العربي قد فقدنا صحفيّاً متمكنا، ومسؤولاً مقتدرا، وصاحب حمولة على مستوى الكتابة وأمانة الحروف.. إنه رجل القيمة، والقامة أيضاً.
لقد أبصرنا ذلك منه عن قرب خلال النقاشات المستفيضة حول جملة من القضايا القومية حتى عند الاختلاف معه حولها، وتابعناه عن بعد عبْر كتابات تحمَّلَ مسؤولية نشرها، وكان بين هذا وذاك يتيح لمعظم الذين عملوا ـ كما يشهدون ـ أو عرفوه عبر نشر مقالاتهم التحليلية مثلي فضاءً للتعبير بحرية، جنبتهم رفض مؤسسات إعلامية حكومية وخاصة في المجالين المكتوب والمرئي.
لقد كان هيثم الزبيدي رحمه الله ـ وما أصعب الحديث عنه بصيغة الماضي، وقد كان بيننا ملء السمع والبصر في أزمنة الصحة والمرض ببعديْها الشخصي والقومي ـ ابناُ شرعيّاً للمُؤَسِّسين الأوائل في الصحافة العربية، وبارًّا بأمته لجهة صناعة مجدها في حاضره، وقارئا متفطِّناً للمستقبل؛ حاملاً في وقت مبكر لتطوراته قبل حدوثها، ومدافعاُ بأدب ودماثة أخلاق عن قناعاته.
دفاعه عن قناعته كان نوعاً من البوح الجميل بما تكنه النّفس دون الأخذ في الاعتبار وقعها على الغير سواء عند الإدلاء برأيه بناء على المعلومات أو تقديمها بحيث تتسرب إلى العقول فتعِيَّها أذن واعية في سياق تحليل مُؤسَّس على الخبرة والمعرفة المُسْبقة، فتبدو أقواله وكتاباته، حتى لو حملت تحيّزا ـ ظاهراً أو مستترا ـ لجهة على حساب أخرى نوعا من التجلي الإعلامي، والصدق الخبري الواضح والموضوعي للمساعدة على الفهم، على الأقل من زاوية رؤيته الخاصة.
لنضربْ مثلاً هنا يخصّ دفاعه المستميت عن قضايا أمته من خلال تعاطيه الإعلامي ـ وهو العراقي المقيم خارج وطنه ــ مع قضايا دول الخليج العربي، ومنها بوجه خاص دولة الإمارات العربية المتحدة، إذْ لم يراَوده الشك أو الظن يوماُ في التزامها وصدقها وجديتها، وثبات مواقفها، ودورها الفاعل في محيطها الإقليمي، وذهابها بعيدا قي رحلة الزمن المعاصرة، إلى حيث تغدو الدول الكبرى، متحدِّياً عبر صحيفة” العرب” سفهاء الأمة في حروبهم الإعلامية العفوية، أو تلك المدفوعة من الآخرين بهدف ادخال شعوب المنطقة كلها مرحلة الظن، والابتعاد عن اليقين الظاهر والشك في المنجز المتراكم.
لقد كانت نظرة الزبيدي لدولنا من الناحية الإعلامية ـ وأحسب أنها ستعمر إلى حين من الزمن ـ تنطلق من الإيمان بدور الصحافة في أزمنة التغير الكبرى في كل المجالات، ولذلك كان لجريدته” العرب” ولمقالاته حضورهما الطّاغي في دوائر صناعة القرار في معظم الدول العربية، كما اعْتٌبرتَا مرجعين لجهة المعرفة من الإعلام الغربي والمهتمين بالشؤون العربية.
في تجربة الزبيدي، تجتمع المسؤولية الإدارية للعمل الإعلامي مع النبل الأخلاقي من جهة، ويلتقي الوعي مع المسؤولية الأدبية تجاه العاملين معه والقارئ من جهة ثانية، حيث تلمّس الطريق في ظل أجواء متوترة بشكل دائم بين العرب، وقد انعكس هذا على تعاطِيه مع مجمل القضايا خاصة في السياسة والاقتصاد، وقبل ذلك وبعده الإعلام، لذلك تجاوز وسائل الإعلام الأخرى ـ المرئية والمسموعة ومواقع التواصل الاجتماعي ــ بطرح صحفي مواكب للإحداث ومفسِّراً لها، وهذا بإرساء آليات تحريرية غير تقليدية تقدم للقارئ الإفادة والإضافة بالرغم من المنافسة الكبيرة مع الفضائيات ووسائل الإعلام الحديثة.
لقد صنع الدكتور هيثم الزبيدي عصره الإعلامي عبر مؤسسة العرب، وجعلها تتوسع وتتمدد عبر” إنشائه مواقع وصحف بلغات مختلفة من الإنجليزية إلى الإسبانية والتركية لإيصال مقاربة “العرب” التي تتأسس على العقلانية والتسامح ونبذ التطرف والإرهاب إلى القارئ غير العربي بهدف المساهمة في تغيير الصورة السلبية التي انطبعت في أذهان الكثيرين عن الشعوب العربية وأفكارهم وقيمهم؛ في ظل اتساع موجة التطرف شرقا وغربا في مرحلة ما بعد الربيع العربي”، كما جاء في مقال نشرته جريدته، كٌتب بعد وفاته، حمل عنوان:” رحيل الدكتور هيثم الزبيدي المؤسس الثاني لـ”العرب”.