
من احتجاجات في ليبيا - (أرشيفية)
محمد فال معاوية
في ليبيا، لم تعد المعركة على السلطة تُخاض بالسلاح وحده، بل على رقعة سياسية معقدة تتداخل فيها المصالح المحلية والإقليمية والدولية.
وسط هذا المشهد المتشابك، يبرز عبد الحميد الدبيبة كأحد أبرز اللاعبين، لكنه ليس بالضرورة اللاعب الأمثل. فمنذ أن تولّى رئاسة الحكومة الانتقالية، تحوّلت طرابلس إلى ساحة مناورة مفتوحة، وبدأت رقعة الشطرنج الليبية تشهد تحركات مشبوهة، وقرارات أحادية، وتحالفات تثير القلق.
وبينما تتهاوى فرص الاستقرار وتزداد الهوة بين مؤسسات الدولة، يبدو أن الدبيبة ماضٍ في تحريك البيادق بما يخدم بقاءه، ولو كان الثمن تفكك الدولة وضياع مستقبل الليبيين.
حين تسلم عبد الحميد الدبيبة مهامه كرئيس لحكومة الوحدة الوطنية في فبراير 2021، كان يفترض أن تكون حكومته جسر عبور إلى الانتخابات، لا حجر عثرة في طريقها. غير أن الواقع رسم صورة مختلفة: فقد تحوّل من رئيس مؤقت إلى لاعب رئيسي لا يخفي رغبته في البقاء، حتى لو تطلّب ذلك تعطيل الانتخابات، ومساومة الداخل والخارج على حساب استحقاقات الليبيين.
رفض الدبيبة تسليم السلطة إلا لحكومة “منتخبة” بدا خطوة ديمقراطية في ظاهرها، لكنها عملياً أعادت البلاد إلى مربّع الانقسام، حيث تصاعدت المواجهات السياسية بين حكومته، وحكومة فتحي باشاغا المعيّنة من البرلمان، ما أدى إلى ازدواجية تنفيذية عادت لتنهش مؤسسات الدولة، وتضعف قدرتها على الحكم.
في مشهد لا يختلف كثيرًا عن أنظمة الحكم الشخصي، بدأ نفوذ عائلة الدبيبة يتوسع داخل مفاصل الدولة. تقارير متكررة تشير إلى تدخل أبناء وأقارب رئيس الحكومة في قطاعات حيوية كالاقتصاد والطاقة والتعيينات السيادية، ما يثير شكوكاً حول نية واضحة في تحويل الحكومة إلى مشروع عائلي طويل الأمد.
في الوقت نفسه، عمد الدبيبة إلى نسج تحالفات انتقائية مع قوى مسلحة في الغرب الليبي، لتأمين بقائه السياسي، حتى لو كان الثمن تسليم القرار السيادي لجماعات تتقاطع مصالحها أحياناً مع شبكات تهريب وفساد وميليشيات منفلتة.
لم تكن القوى الدولية بعيدة عن رقعة الشطرنج الليبية، بل شكّلت جزءاً أساسياً من تحريكها. الدبيبة، بخبرته في التوازنات، عمل على استرضاء أطراف إقليمية متنافرة، ما جعله “مقبولاً” لبعض العواصم، رغم فشله الداخلي في فرض الاستقرار أو إجراء انتخابات.
في ظل غياب مشروع وطني واضح، تبدو ليبيا اليوم ساحة مفتوحة لكل من يريد أن يلعب، بينما تبقى مصالح الليبيين مؤجلة، وأحلام الدولة المدنية عرضة للتلاشي.
في ظل انسداد الأفق السياسي، وتحول الحكومة المؤقتة إلى سلطة أمر واقع، يبرز سؤال محوري: ما الذي ينتظر ليبيا بعد الدبيبة؟ هل هي بداية لتحول ديمقراطي حقيقي طال انتظاره، أم مجرد انتقال من فوضى إلى فوضى أشد؟
السيناريوهات متعددة، لكن أخطرها يتمثل في بقاء الوضع الراهن بلا حسم، حيث تتآكل شرعية المؤسسات، وتتغوّل المليشيات، وتنهار الثقة الشعبية في أي مشروع وطني. وفي حال استمر الرهان على الشخص لا الدولة، فإن ليبيا مهددة بفقدان ما تبقى من سيادتها، وتحولها إلى ساحة نفوذ تتقاسمها القوى الإقليمية والدولية.
وحده الحل السياسي الشامل، المرتكز على انتخابات حقيقية وقيادة وطنية تتجاوز منطق المحاصصة، يمكن أن يُخرج ليبيا من هذه الرقعة المحترقة. أما استمرار لعبة الشطرنج الحالية، فسينتهي عاجلاً أو آجلاً بسقوط جميع القطع… بمن فيهم اللاعب نفسه.