thumbs_b_c_b556f215f0c1f32ba079f91db4edc63e

محمد فال معاوية

في مهنتي الصحفية، شاهدت مآسي الحروب والكوارث من أفغانستان إلى السودان، ومن أوكرانيا إلى لبنان. لكن لم أشهد في حياتي صورة إنسانية تشبه تلك التي رأيتها في غزة.

ليست غزة فقط ساحة حرب، بل ساحة إنسانية نادرة، يتجلى فيها النُبل البشري في أنقى صوره، وسط أكثر الظروف قسوةً ووحشيةً.

غزة، المدينة المحاصرة منذ سنوات، تحولت إلى رمز عالمي للمعاناة، لكنها في الوقت نفسه أصبحت مسرحًا حيًّا للإنسانية في أنقى صورها. في كل غارة تُهدم بيوت، لكن تُبنى علاقات أقوى.

في كل شارع، هناك من يضمد جراح الآخرين قبل أن يضمد جراحه. في كل حي، هناك من يطهو طعامه البسيط ليقتسمه مع من لا يجد شيئًا. وبين الأنقاض، تنبت قصص لمتطوعين، أطباء، أطفال، وشيوخ يقاتلون الحزن بالحب، واليأس بالأمل.

في كل مجزرة، يظهر من يربّت على كتف الآخر، من يحمل الجريح، من يفتح بيته للنازحين، من يتقاسم الماء والخبز والأمل.

هذه ليست مشاهد دعائية، بل واقع يومي. رأيت بعيني طبيبًا يعالج في ردهة مشفى بلا أجهزة. ورأيت طفلةً تحضن أختها تحت الركام وتهمس: “ما تخافي… إحنا مع بعض”. ورأيت شبابًا يركضون للمساعدة بدل الهرب، لأن الهرب من الإنسانية أصعب من مواجهة الخطر.

في غزة، لا تُمارس الإنسانية من باب الرفاه أو الترف، بل من باب الضرورة الأخلاقية. الناس هناك اختاروا أن يبقوا بشرًا، اختاروا أن يصنعوا من القهر وقودًا للتكافل، ومن الوجع فرصةً لتجسيد الرحمة.

وهنا، تأتي مسؤوليتنا كصحفيين لا لنروي القصف فقط، بل لنوثّق كيف ينهض البشر من تحته ويُبقون على قلوبهم حيّة.

هناك شيء في غزة لا يُقصف: الكرامة. والنخوة. والإنسانية.

قد تُهدم الجدران، وتُقطع الكهرباء، وتُمنع الإمدادات، لكن لا أحد استطاع حتى الآن أن يحاصر قلب أم، أو يُخيف ضمير طبيب، أو يُوقف طفلًا عن رسم علمه على جدار مهدّم.

ختامًا.. بوصفي صحفيًا، قد أروي لك ما حدث. لكن بوصفي إنسانًا، أقول لك: غزة ليست مجرد مأساة. إنها درس عالمي في أن الإنسان، في أقسى الظروف، قادر على أن يكون نورًا.