
✍️ رامي صلاح – القاهرة
حين ينهار الوطن تحت ركام الحرب، لا يملك الجائع أن يرى من يطعمه، ولا المريض أن يسأل من أنقذه، لكن المؤسسة العسكرية في السودان – المتمرسة في التلاعب بالروايات – قررت أن تُدين اليد التي امتدت بالخير، فاتهمت الإمارات، لا بالكرم، بل بتهم أغرب من الخيال!.
◀️ زمرة البرهان ومجلس الأمن
في جلسة مجلس الأمن الدولي يوم 20 مايو 2025، أثارت تصريحات السفير السوداني، الحارث إدريس، جدلًا واسعًا بعد اتهامه الإمارات. هذه التصريحات جاءت في وقت تشهد فيه الأزمة السودانية تصاعدًا في العنف وتدهورًا إنسانيًا غير مسبوق.
وبشكل عام فمنذ اندلاع الحرب السودانية – السودانية، أبريل 2023، دأبت أصوات محسوبة على زمرة البرهان – قبل وبعد الفرار من العاصمة إلى بورتسودان – على اتهام أطراف إقليمية بلعب دور سلبي في أزمتهم الداخلية، غير أن استعراضًا موضوعيًا للمواقف والأحداث لا يُفضي إلى هذه النتيجة، على عكس الحال عند استعراض تاريخ المؤسسة العسكرية السودانية التي تمتلك تاريخ طويل من التورط في حلقات من قمع الشعب السوداني والانقلاب على الحكومات المنتخبة من جانبه.
◀️ دعم إماراتي متواصل قبل الحرب
على مدار أكثر من نصف قرن كانت دولة الإمارات العربية شريكًا فاعلًا في دعم الدولة السودانية، إذ قدمت المساعدات التنموية والإنسانية لشقيقتها السودان منذ سبعينيات القرن المنصرم؛ حين أمر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ببناء طرق تربط المدن السودانية، ما أسهم في النهضة التجارية والصناعية والزراعية للشعب السوداني.
وبعد الحرب الداخلية الحالية، التي تلت الانقلاب العسكري الفاشل على الحكومة الانتقالية، قدمت دولة الإمارات بالتعاون مع المملكة السعودية، حزمة من المساعدات الإنسانية والتنموية للسودان تجاوزت قيمتها الثلاث مليارات دولار، منها 500 مليون دولار وضِعت كوديعة في البنك المركزي السوداني بهدف تقوية مركزه المالي والمساعدة في إنقاذ الجنيه السوداني.
◀️ موقف ثابت عند اندلاع الحرب
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، اتخذت الإمارات موقفًا ثابتًا يدعو إلى وقف إطلاق النار بشكل فوري، ومعالجة الأزمة الإنسانية من خلال توفير المساعدات الإغاثية العاجلة، بما يلبي تطلعات الشعب السوداني نحو التنمية والازدهار.
وسياسيا، أعلنت فور اندلاع الحرب عبر بيان صادر من وزارة الخارجية عن رفض عسكرة الأزمة وضرورة الحوار السياسي. ورغم محاولات البعض تحميل الإمارات مسؤولية تأجيج الصراع، فإن مواقفها الدبلوماسية والتقارير الرسمية للأمم المتحدة لم تتضمن أي دليل على ذلك.
كما شاركت الإمارات في مؤتمرات دولية، مثل مؤتمر أديس أبابا، فبراير 2025، حيث أعلنت عن تقديم 200 مليون دولار إضافية من المساعدات الإنسانية، ليصل إجمالي المساعدات الإماراتية منذ اندلاع الأزمة إلى 600.4 مليون دولار.
◀️ دعم إنساني شامل للشعب السوداني
لم تقتصر المساعدات الإماراتية على الدعم المالي فقط، بل شملت إرسال 159 طائرة إغاثة محملة بأكثر من 10 آلاف طن من المواد الغذائية والطبية، إضافة إلى بناء مستشفيين ميدانيين في شرق تشاد، الحدود الغربية للسودان، قدما العلاج لأكثر من 45 ألف شخص.
كما وقعت الإمارات اتفاقيات مع منظمات دولية، مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية، لتقديم مساعدات غذائية وصحية للسودان، مما يعكس التزامها المستمر بدعم الشعب السوداني في محنته.
◀️ تاريخ من القمع والانقلابات
على الجانب الآخر، فإن القوات المسلحة السودانية، التي يمثل السفير الحارث إدريس القائمين عليها، لا يخلو تاريخها من ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الشعب السوداني الشقيق، ففي دارفور، أسفرت النزاعات عن مقتل 300 ألف شخص وتشريد 2.5 مليون آخرين، بحسب الأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ضحايا بالآلاف، في جبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق؛ سقطوا على مدار سنوات عاشتها تلك المناطق تحت قصف بالبراميل المتفجرة باستخدام طائرات الأنتينوف الروسية الصنع، ما وصفه المخرج السوداني حجوج كوكا بالحياة (على إيقاعات الأنتينوف)؛ الاسم الذي اختاره لفيلمه الوثائقي الطويل الحائز على عدة جوائز عالمية وإقليمية.
كل ما مضى بخلاف ما شهدته البلاد من انقلابات عسكرية متكررة على كل سلطة مدنية ارتضاها السودانيين منذ الاستقلال، ما أدى لتعطيل مسيرة الديمقراطية علاوة على استخدام القوات المسلحة العنف لقمع الاحتجاجات السلمية؛ ما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا طوال فترة حكم هذه الانقلابات المتعاقبة؛ إنقلاب الجنرال عبود 1958 على أول حكومة مدنية منتخبة بعد الستقلال؛ واستمر عبود في السلطة حوالي سبع سنوات حكم خلالهم من خلال حكومة عسكرية بعدما أوقف العمل بالدستور، وألغى البرلمان، وقضى على نشاط الأحزاب السياسية.
ثم وبعد أن صدح المطرب النوبي الأشهر، محمد وردي، بكلمات الشاعر الكبير محمد الفيتوري، أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق، احتفالا باسقاط الشعب للحكومة العسكرية في أكتوبر 1964. عاد المؤسسة العسكرية، وبعد سنوات قليلة، لتقفز على السلطة بقيادة جعفر النميري في مايو 1969.
تخلل حكم النميري نفسه عدة انقلابات فاشلة حتى سقط على يد الشعب السوداني في إبريل 1985، لكن سريعا ما عادت القوات المسلحة السودانية بالتحالف في القفز على السلطة من جديد سنة 1989.. لكن هذه المرة كان الضباط المنفذين عبارة عن أداة في يد الحركة الإسلامية بقيادة الراحل حسن الترابي، ونجح هذا الإنقلاب في السيطرة على السلطة لثلاث عقود كاملة؛ نفذ فيها ما وصفه د. فرج فودة - بعد أقل من ثلاث سنوات - "أحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث في السودان".
ثلاث عقود شهدت استقلال الجنوب، الحرب في دارفور، الحرب في كردفان والنيل الأزرق، إيواء بن لادن، صعود وترقي البرهان وزمرته لأعلى الرتب، تأسيس الدعم السريع الذين يتهمون الإمارات بتمويله.
◀️ الحارث إدريس ومواقف متناقضة
السفير الحارث إدريس، مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة، أثار الجدل ليس بكلمته واتهاماته الجزافية بقدر ما فعلها بمواقفه المتناقضة. ففي حين كان من أبرز المنتقدين لـ"الكيزان" حركة الإخوان المسلمين في السودان، نجده اليوم يدافع عن القوات المسلحة السودانية التي اخترقتها "الكيزان" منذ أكثر من ثلاث عقود وجعلوها تقودهم إلى حيث يريدون، كما يفعل الفطر بالنمل فيحوله إلى ما يعرف بالنمل الزومبي.
هذا التناقض يثير تساؤلات حول مدى استقلالية مواقفه، وهل تعبر عن قناعاته الشخصية أم عن توجهات النظام الذي يمثله؛ خاصة وإنه تولى منصبه بعد الإنقلاب الأخير الذي قامت به زمرة البرهان على الحكومة المدنية الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك.
◀️ الإمارات شريك صادق للشعب السوداني
إن محاولة اتهام الإمارات التي كانت ولا تزال شريكًا صادقًا للشعب السوداني، من قبل البرهان وزمرته.. أمر أشبه بما يعرف بالعلاقات السامة "التوكسيك"؛ وكأن حكومة بورتسودان تريد أن تقطع أي صلة بين الشعب السوداني وبين أي طرف صديق يمكن أن يمد له يد العون.
فمحاولة تبرئة القوات المسلحة من ما يجري في السودان وتحميل الآخرين المسؤولية، لن تغير من الواقع شيئًا؛ فالشعب السوداني يعرف جيدًا من يقف إلى جانبه ومن دأب على قمعه وإسكات صوته.