
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ينزل من الطائرة الرئاسية عند وصوله إلى قاعدة أندروز المشتركة في ماريلاند
خاص – (اليوم ميديا)
في لحظة بالغة الحساسية على المستويين الإقليمي والدولي، تأتي زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقة الخليج، لتؤكد ليس فقط عودة الحضور الأميركي المباشر إلى قلب الشرق الأوسط بعد فترة من الانكفاء النسبي، بل أيضا لتعكس تحوّلا هيكليا في طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.
التحول الجديد يشي بأن الدول الخليجية، وخاصة السعودية والإمارات وقطر، من المنظور الأميركي باتت فواعل إقليمية لها حضور مستقل في ملفات السياسة والاقتصاد والطاقة والأمن، وتتعامل مع القوى العظمى من موقع الفاعل لا التابع، وهو ما يُكسب الزيارة دلالة خاصة تتجاوز البروتوكول إلى مستوى إعادة تعريف التوازنات في مرحلة انتقالية يمر بها النظام الدولي.
أبعاد جيوإستراتيجية
وتأتي الزيارة بالتزامن مع بداية ولاية ترامب الثانية، وهي لحظة يُعاد فيها ضبط أولويات السياسة الخارجية الأميركية، كما أنها تأتي في ظل بيئة جيوسياسية مشحونة بتطورات خطرة، أبرزها التصعيد المستمر في الأراضي الفلسطينية، ومآلات الاتفاق النووي الإيراني، والحرب التجارية خاصة بين واشنطن وبكين، والصراع في أوكرانيا ما يجعل المنطقة نقطة التقاء إستراتيجية بين مصالح واشنطن وحاجاتها الأمنية والاقتصادية من جهة، وبين طموحات دول الخليج في التموقع كمراكز قوة ذات قدرة على التأثير في النظام الدولي من جهة أخرى.
اقرأ أيضا
ترامب والخليج: ما الذي يريده الطرفان؟
وتتضح الأبعاد الجيوإستراتيجية للزيارة في تعدّد المستويات التي تناولتها، حيث لا تقتصر على صفقات اقتصادية أو تعاقدات دفاعية، بل يرجح أن تشمل أيضا تحريك ملفات سياسية معقدة تتطلب من دول الخليج أداء دور الوسيط أو الحليف أو اللاعب المحوري.
شراكة حقيقية مع الخليج
ويرتبط هذا بإدراك واشنطن، في عهد ترامب، أن أدواتها التقليدية لم تعد كافية وحدها لتحقيق الأهداف، وأن استقرار الشرق الأوسط لم يعد ممكنا من دون شراكة حقيقية مع العواصم الخليجية، لاسيما الرياض وأبوظبي والدوحة، التي نجحت كلٌّ منها في ترسيخ استقلال في القرار السياسي، وانفتاح على تعدد الشركاء الدوليين دون الوقوع في فخ الاصطفافات.
اقرأ أيضا
ترامب يزور 3 من أغنى دول العالم.. هذه أمنياته
ومن هنا، فإن اختيار ترامب للقيام بهذه الجولة الخليجية في بدايات عهدته الثانية لا يُقرأ فقط باعتباره تأكيدا على متانة العلاقات الثنائية، بل يُفهم أيضا على أنه محاولة استباقية لإعادة تموضع الولايات المتحدة في منطقة باتت تشهد تنوّعا في مراكز النفوذ، حيث تعزز الصين من شراكاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع الخليج، وتُكثّف روسيا حضورها الأمني والدبلوماسي.
براغماتية أميركية
هذا الوضع يُحتم على واشنطن إعادة ترتيب أوراقها، بدء من تعزيز الشراكة الاقتصادية مع الحلفاء الخليجيين، مرورا بتجديد الالتزام الأمني، وصولا إلى دعم مشاريع التحوّل الاقتصادي والتكنولوجي التي تُطلقها هذه الدول في محاولة لبناء اقتصادات ما بعد النفط.
تآكل النظام الليبرالي العالمي
وما يزيد من أهمية الزيارة أنها تأتي في ظل سياق دولي يتسم بتآكل النظام الليبرالي العالمي، وتقدّم نهج الواقعية السياسية في تفسير التحالفات الدولية، إذ تُظهر إدارة ترامب بوضوح أن الشراكة لم تعد مرهونة بشروط قاسية، بل قائمة على معادلة المصالح المباشرة، وهو ما يلقى قبولا لدى الدول الخليجية التي ترى في البراغماتية الأمريكية فرصة لتأمين مصالحها وتوسيع نطاق نفوذها دون التعرض لضغوط سياسية غير مقبولة.
صفقات واستثمارات مشتركة
ولا يمكن تجاهل أن الزيارة، بما تحمل من صفقات واستثمارات مشتركة، ومشاريع إستراتيجية في مجالات الطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي، والدفاع، والبنية التحتية الرقمية، تعبّر عن تحوّل في نظرة الولايات المتحدة لدول الخليج، ليس فقط كمصدر للثروة المالية، بل كمراكز إنتاج معرفي واستثماري تسعى واشنطن إلى جذبها للمساهمة في دعم النمو الأمريكي ومواجهة التفوق الآسيوي المتزايد، لاسيما في ضوء حاجة إدارة ترامب إلى إثبات أن تحالفاتها قادرة على خلق نتائج اقتصادية ملموسة في الداخل، تُسهم في إعادة ثقة الناخب الأمريكي بالمشروع الترامبي.
كيانات مؤثرة
وفي ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن زيارة ترامب إلى الخليج ليست زيارة عادية في سياق البروتوكولات الدبلوماسية، بل إعلانا غير مباشر عن أن دول الخليج باتت، في الحسابات الجيوستراتيجية العالمية، كيانات مؤثرة، تقود مساراتها السياسية والاقتصادية وفق حساباتها الوطنية، وتُعدّ لاعبا لا يمكن تجاوزه في قضايا الأمن الإقليمي، ووسيطا ذا مصداقية في ملفات دولية معقدة، وشريكا اقتصاديا وعسكريا رئيسيا في المعادلة الأمريكية.