
جانب من العاصمة الإماراتية أبوظبي
محمد فال معاوية
في قلب الصحراء الخليجية، تبني الإمارات مجمعاً لا يشبه سواه في الشرق الأوسط: مجمع الذكاء الاصطناعي في أبوظبي، الذي لا يرمز فقط إلى استثمار تقني، بل إلى إعلان دخول البلاد في سباق عالمي على مستقبل القوة والنفوذ. فمن خلال هذا المشروع الطموح، تسعى الإمارات إلى تجاوز أدوارها التقليدية في الاقتصاد والطاقة، وتتموضع لاعبًا جديدًا في حلبة الثورة التكنولوجية.
لم يكن خافيًا أن دولة مثل الإمارات، بثروتها النفطية وموقعها الجيوسياسي، تملك القدرة على القفز فوق المراحل. لكن القفزة نحو الذكاء الاصطناعي بدت أكثر طموحًا مما توقعه الكثيرون. تأسيس مجمع الذكاء الاصطناعي في أبوظبي جاء ضمن رؤية استراتيجية أوسع تهدف إلى جعل البلاد مركزًا عالميًا للأبحاث والتطوير، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات الدفاع، الأمن، الصحة، والطاقة.
ويبرز في هذا السياق دور (شركة G42)، الذراع التكنولوجي لأبوظبي، التي أصبحت في غضون سنوات قليلة لاعبًا إقليميًا ودوليًا في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك النموذج اللغوي العربي المتقدم “فلك”، والذي تم تقديمه كجزء من المنافسة مع نماذج أميركية مثل (GPT وClaude).
رؤية الإعلام الغربي لطموح أبوظبي التكنولوجي لم تكن موحدة. فبينما تناولت بعض الصحف الكبرى مثل (Financial Times وBloomberg) المشروع الإماراتي بإعجاب وتقدير لقدراته، ظهرت موجة من التحليلات الأخرى التي قرأت في هذا الصعود تقاطعًا حساسًا بين التكنولوجيا والسلطة.
فقد أثار التعاون بين G42 وبعض الجهات الصينية، في مرحلة ما، قلق الولايات المتحدة، ما دفع لاحقًا إلى تغييرات في الشراكات والاستراتيجيات. وقد وصفت (The New York Times) هذا التوجه الإماراتي بأنه “رهان على مستقبل غير مضمون”، بينما اعتبرته (Politico) “جزءًا من منافسة صامتة على من يملك خوارزميات العالم”.
ورغم محاولات الإمارات إظهار استقلالية سياستها التكنولوجية، فإن الضغط الأميركي كان واضحًا، خاصة عندما تعلق الأمر باستخدام البنى التحتية والشرائح الحساسة. وفي هذا السياق، تفسر بعض المصادر انسحاب الإمارات من صفقات تكنولوجية صينية لصالح تعزيز التعاون مع شركات أميركية مثل (Microsoft وOpenAI).
من أبرز مخرجات هذا التوجه الإماراتي كان نموذج “فلك”، أول نموذج لغوي كبير (LLM) متطور باللغة العربية، يمكّن العالم العربي من دخول عصر الذكاء الاصطناعي بلغة الهوية.
ورغم تأخر المنطقة مقارنة بالمشهد العالمي، فإن إطلاق هذا النموذج من أبوظبي وضع الإمارات في موضع ريادة تقني ولغوي، لاقى إشادة وحتى توجساً في بعض الأوساط الغربية، التي تدرك أن للغة والثقافة دوراً في تشكيل المحتوى والتأثير.
المفارقة في نظرة الإعلام الغربي تكمن في سؤالهم المتكرر: هل تسعى الإمارات لتطوير الذكاء الاصطناعي لخدمة التنمية، أم لتعزيز الهيمنة؟
لكن من وجهة النظر الإماراتية، لا يمكن فصل التقنية عن الأمن القومي والتنمية الاقتصادية. إذ ترى أبوظبي في الذكاء الاصطناعي فرصة لتعزيز مكانتها العالمية، وتأمين مستقبل ما بعد النفط، والتحكم بمسارها في عالم يتحكم فيه من يملك البيانات والخوارزميات.
من الواضح أن مجمع الذكاء الاصطناعي في أبوظبي ليس مجرد مبنى أو مشروع، بل فصل جديد في سردية بلدٍ قرر أن يكون رقماً صعبًا في معادلة المستقبل. وبينما يراقب العالم هذا الصعود الحذر، تبقى الحقيقة أن من يتحكم في الذكاء الاصطناعي اليوم، قد يتحكم في قرارات العالم غدًا.