
من العاصمة الموريتانية نواكشوط
الحسن الغوث
حين صادرت أجهزة الأمن الموريتانية شحنة هائلة من حبوب الهلوسة، اعتقد البعض أن المعركة قد بدأت. لكن الحقيقة أن ما كُشف لم يكن سوى رأس جبل الجليد. فالخطر الحقيقي لا يكمن في الكمية المضبوطة، بل في الطرق التي سلكتها، وفي الأبواب التي فُتحت لها من الداخل.
الخراب لم يأتِ من الخارج وحده… بل شُحن من مطاراتنا، وسُوّق في شوارعنا، ومرّ تحت أعينٍ تعرف كل شيء وسكتت — أو قبضت!
من سهّل عبور هذه السموم؟ من يحمي الموزعين؟ ومن قرر أن يتحوّل شباب موريتانيا إلى فئران تجارب في مشروع تخديرٍ جماعي؟
الأسئلة كثيرة، لكن ما بات واضحًا هو أن الفساد في هذه القضية ليس مجرد شريك… بل هو الرأس المدبّر.
نعم، الدولة التي يُفترض أن تحمي المجتمع من السموم، تبيّن أنها – أو بعض من فيها – تسهّل عبورها، تغضّ الطرف، أو تتواطأ بالصمت أو التوقيع.
المهربون ليسوا عباقرة. لا هم خبراء استخبارات، ولا يملكون تقنيات تسلل خارقة. إذًا كيف وصلت هذه الكميات؟
من سهّل مرورها عبر الحدود؟ كيف تفادت نقاط التفتيش؟ من كان يعلم وسكت؟ بل من كان يعلم وسهّل مقابل رشوة أو وعود؟
الجواب خطير: بعض الأبواب لا تُفتح إلا من الداخل.
وحين يتعلق الأمر بشحنة بهذا الحجم، فلا مجال للبراءة. نحن أمام عملية مرّت إما بـ”موافقة صامتة”… أو “رعاية مباشرة”.
السوق السوداء لحبوب الهلوسة في نواكشوط ليست عشوائية. هناك توزيع، هناك حماية، وهناك أسماء معروفة في الأوساط الشعبية.
لكن من يحميها من الملاحقة؟.. من يتلاعب بالأدلة؟. من يُوجّه الحملات الأمنية نحو أهداف صغيرة، ليبقى الكبار في الظل؟
كل هذه مؤشرات تقول شيئًا واحدًا: المعركة ليست فقط ضد المخدرات، بل ضد الفساد الذي يتاجر بعقول الشباب مقابل حفنة من الدولارات.
حبوب الهلوسة ليست مجرد مخدر. إنها أداة تفتيت للعقل والوعي والانضباط. كل قرص منها هو خطوة نحو جريمة، انهيار، مرض نفسي، أو حتى انتحار.
والسؤال المؤلم: ماذا يحدث حين تتحوّل الدولة من حامٍ إلى تاجر؟
حين تصمت المؤسسات عن الخطر، وتتجاهل التحقيق، وتفشل في المحاسبة، فهي تعلن إفلاسها الأخلاقي والسياسي.
لا فائدة من الشعارات. لا فائدة من المؤتمرات أو “خُطب الجمعة”.
ما دامت هناك شبكات مخدرات تُدار من داخل المكاتب الرسمية، فإن أي حديث عن التنمية أو الإصلاح هو كذب علني.
على الشعب أن يسأل: من باع موريتانيا؟ من حوّل شبابنا إلى زبائن لصيدلية الخراب؟ ومن يحكم فعلاً حين تتحرك العصابات بحرية؟
حبوب الهلوسة ليست النهاية. إنها البداية فقط.
وما لم تتحرك الدولة، بصدق، لا بكاميرات التلفزيون، لتفكيك الشبكات من فوق لا من تحت، فإن القادم أسوأ.
الخراب في الحبة… لكن الخيانة في المكتب. وكل من يسكت… شريك.