لقطة الشاشة 2024-08-15 في 2.34.46 ص

من ليبيا (أرشيفية)

اليوم ميديا – (رامي صلاح)

في ليبيا، لا أحد يحرّك القطع عبثًا. فكل خطوة على الأرض تُقابل بحساب دقيق في العواصم الإقليمية والدولية، وكل تحرك عسكري أو سياسي يخضع لقواعد شطرنجية صامتة، فيها لاعبين معلنين، وآخرين يفضّلون البقاء في الظل.

منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، دخلت البلاد في حالة تشبه “اللعبة المفتوحة”، حيث لا وجود لقواعد ثابتة، ولا نهاية تلوح في الأفق. رقعة الشطرنج الليبية اليوم ليست فقط بين الشرق والغرب، ولا بين حكومة الدبيبة وحفتر… بل بين أطراف دولية تتصارع من أجل موطئ قدم على ضفاف المتوسط، وعلى بحر من الثروات.

وعلى امتداد أكثر من عقد، تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة تتقاطع فيها أطراف محلية متنازعة، وتحضر فيها قوى إقليمية ودولية فاعلة، بينما تظل القبيلة هي حجر الزاوية في المشهد الليبي، رغم محاولات إظهار العكس.

حكومتان ولا دولة

ينقسم المشهد السياسي الليبي اليوم بين حكومتين متنازعتين؛ “حكومة الوحدة الوطنية” في العاصمة طرابلس، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والتي تحظى باعتراف الأمم المتحدة منذ 2021، لكنها فقدت الكثير من شرعيتها السياسية عقب فشلها في إجراء الانتخابات، وتراجع نفوذها لصالح المجموعات المسلحة المتحالفة معها.

وتعتمد هذه الحكومة تأييد نسبي من بعض قبائل غرب ليبيا (مثل ورفلة، الزنتان، والمشانة)، وإن كانت العلاقة متوترة أحيانًا بسبب الخلافات الأمنية.

"الحكومة الموازية" في الشرق، وتشكلت عن طريق مجلس النواب في طبرق، ويقودها أسامة حماد، تحظى هذه الحكومة بدعم "الجيش الوطني الليبي" بقيادة المشير خليفة حفتر. وتسيطر فعليًا على معظم مناطق برقة والهلال النفطي، وقبليا تتمتع بدعم قبائل شرق ليبيا (مثل العواقير والفضائل والمغاربة)، بالإضافة إلى ولاء أجزاء من قبيلة القذاذفة (قبيلة حفتر الأصلية).

وبين الحكومتين يحاول ما يعرف بـ"المجلس الأعلى للدولة"، مقره طرابلس، أن يجد لنفسه موقع قدم، لكن تأثير محدود قبليًا ويرجع ذلك لكونه يمثل تيار الإخوان المسلمين؛ إذ يتصادم مفهوم الولاء للتنظيم مع الولاء القبلي، فتقتصر جماهيريته على مدن الغرب (خاصة طرابلس) حيث يدعمه تحالف من الإسلاميين وبعض النخب الحضرية.

ثالوث الصراع على السلطة

يتوزع النفوذ في ليبيا بين عدة شخصيات رئيسية، أبرزها خليفة حفتر القائد العام لـ"الجيش الوطني الليبي"، يعتمد على تحالفات قبلية وعسكرية قوية، ويطرح نفسه كضامن للاستقرار في مواجهة الإسلاميين والمليشيات.

عبد الحميد الدبيبة: رئيس حكومة طرابلس، ينتمي لمدينة مصراتة، ويستند إلى شبكة من المصالح الاقتصادية والولاءات المسلحة، بالإضافة إلى دعم تركي مباشر.

محمد المنفي: رئيس المجلس الرئاسي، القادم من طبرق، يسعى للعب دور توافقي جامع، إلا أن فعاليته ظلت محدودة نتيجة ضعف صلاحيات المجلس الرئاسي وعدم التوافق الوطني حول صلاحياته.

الميليشيات وسلطة السلاح

في ظل غياب الجيش الوطني الموحد، أصبحت المليشيات المسلحة اللاعب الأقوى على الأرض، وخصوصًا في الغرب الليبي. وتتصدر "قوات مصراتة" هذا المشهد باعتبارها الأكثر تنظيمًا وتسليحًا، وهي حليف رئيسي للدبيبة.

أما في طرابلس، فتبرز تشكيلات مثل "جهاز الردع الخاص" و"قوة دعم الاستقرار"، وهي مجموعات شبه أمنية تمارس دور أجهزة الدولة، لكنها تعمل في الوقت نفسه وفق منطق الولاءات والمصالح.

في المقابل، يُبسط حفتر سيطرته على معظم مناطق الشرق عبر "الجيش الوطني الليبي"، الذي يتكوّن بدرجة كبيرة من أبناء قبائل موالية مثل العواقير والمغاربة والعبيدات.

القبيلة.. الدولة العميقة في ليبيا

رغم هيمنة الخطاب السياسي المدني على السطح، فإن التوازنات القبلية تظل محدِّدة لمسار الأحداث. ليبيا دولة قبلية بامتياز، وتضم أكثر من 1400 قبيلة، منها ما هو مؤثر ومحوري في الشأن السياسي والعسكري.

في الشرق، تبرز قبائل مثل العبيدات (قبيلة عقيلة صالح) والعواقير والبراعصة، التي دعمت حفتر منذ انطلاق عملياته العسكرية في 2014. كما تلعب قبيلة المغاربة دورًا حاسمًا في تأمين الهلال النفطي، وهو شريان الاقتصاد الليبي.

في الغرب، تبرز قبائل ورشفانة والزنتان والرجبان، إضافة إلى نفوذ مدينة مصراتة ذات التكوين الجماعي، والتي تُعدّ القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في غرب البلاد.

في الجنوب، تشكل قبائل التبو والطوارق وأولاد سليمان مثلثًا قبليًا حساسًا، كثيرًا ما يتحول إلى صراعات مسلحة على النفوذ، خاصة في مناطق مثل سبها وأوباري ومرزق.

ومن أبرز القبائل التي ما زالت تحتفظ بثقلها رغم تغير النظام هي قبيلة ورفلة، والتي يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة، وتنتشر في سرت وبني وليد وطرابلس وبنغازي. وتمثل ورفلة واحدة من القوى الاجتماعية القليلة التي تحافظ على تماسكها، وترفض الانخراط في الصراع المسلح، مكتفية بلعب أدوار الوساطة أو الضغط السياسي عند الحاجة.

الجنوب خارج الحسابات

الجنوب الليبي، أو "فزان"، ظل لعقود مهمشًا في المشهد السياسي، لكنه اليوم يمثل منطقة نفوذ حساسة، يتنافس فيها الطوارق والتبو وأولاد سليمان، وسط غياب فعلي لمؤسسات الدولة، وتنامي دور شبكات التهريب العابرة للحدود.

الصراع بين التبو وأولاد سليمان في سبها، ومحاولات السيطرة على المعابر الحدودية إلى كل من تشاد والنيجر، أزمات عسكرية أعادت الجنوب الليبي إلى دائرة الضوء، باعتباره عامل توازن أو تفجير للصراع، حسب مستوى التوافق مع سلطات الشرق أو الغرب.

القبيلة مفتاح الدولة

رغم كل التسويات الدولية والمؤتمرات السياسية، تظل ليبيا محكومة بـ"قانون الأرض"، حيث لا تحكم الدولة بل تحكمها القبائل والتحالفات المحلية.

القبائل رقم مهم جدًا في المعادلة الليبية، وكافة الأطراف السياسية تعتمد عليها كظهير أمني أو تستخدمها كورقة ضغط. ونتيجة لهذا الثقل فيمكن لخلافات عائلية أن يكون لها تأثير على المشهد السياسي الليبي، فالخلافات العائلية يمكن أن تؤدي لانقسامات داخل القبيلة ما يزيد من تعقيد المشهد.

في المقابل، تتراجع شعبية التيارات الأيديولوجية (كالإسلاميين) لصالح تحالفات قبلية جهوية هشة، ما يعكس أزمة شرعية عميقة في ليبيا. لذا فأي حلّ مستدام لا يمكن أن ينجح دون مراعاة تلك التوازنات، التي تمثل، رغم كل ما يقال، اللاعب الأقدم والأكثر رسوخًا على الساحة الليبية