
لقاء جمع في 2019 بوتين بترامب
جيهان ميد
كان الاعتقاد راسخًا في الأذهان أن من يجلس على عرش البيت الأبيض، إنما يجلس على ناصية القرار العالمي. ومن واشنطن، تُدقّ الطبول أو تُطوى الرايات. لكن الزمن تغيّر. عاد دونالد ترامب إلى الحكم، لا كما يعود القائد إلى ساحته، بل كمن يبحث عن ظلّ المجد في مرايا مكسورة.
لقد ولّى زمن “القوة التي يُحسب لها ألف حساب”، وجاء زمن يُنصت فيه العالم إلى أميركا لا من باب الهيبة، بل من باب الفضول وربما التسلية. ترامب، الذي وعد بأن صداقاته الشخصية مع “الكبار” – بوتين، شي، وحتى نتنياهو – ستعيد رسم العالم، وجد نفسه في مرآة عالم لا ينتظر، ولا يعبأ.
بوتين يمضي قدمًا في أوكرانيا، غير عابئ بصوت أميركيٍ خفت تأثيره. الصين تتعامل مع واشنطن كما تتعامل مع تلميذٍ مشاغب: كثير الضجيج، قليل التأثير. وأوروبا تنظر بعين الشك، لا التقدير، إلى حليفها الأطلسي الذي لا يكفّ عن التهديد بالانسحاب من التزامات تحالفية صنعت مجده ذات يوم.
لكن الشرق الأوسط، حيث الرمال تلد الخرائط وتبتلعها، هو المرآة الأصدق لقياس مدى تآكل الهيبة الأميركية. لم تعد واشنطن قِبلة المستنجدين ولا مِحراب الحلفاء. في الخليج، تنتشر الحيرة: ترامب لا يُراهن عليه، ولا يُعتمد عليه. تتأرجح العواصم الخليجية بين الحذر والواقعية، بعدما تبين أن الحليف الأميركي يمكن أن يتحول إلى خصم بتغريدة.
وفي سوريا، لم يعد المشهد كما تركه ترامب في ولايته الأولى. النظام لم يعد برأسه القديم، بل برأسٍ جديد: أحمد الشرع، الذي جاء في لحظة تسويةٍ دولية وإقليمية، ليقود بلدًا أنهكته الحرب لكنه لم يُهزم.
هذا التحوّل، بدلاً من أن يثير اهتمام ترامب، قوبل منه بالصمت والتجاهل، وكأن واشنطن فقدت شهيتها حتى للتعليق. فالرئيس الأميركي، الذي كان يبني مواقفه على ردود أفعال شخصية وعلى كاريزما الخصوم، لا يعرف كيف يتعامل مع واقع سوري جديد تشكّل خارج إرادته، وبدون مباركته.
باتت سوريا الجديدة تُدار من توازنات معقدة بين موسكو، أنقرة، طهران، ودول الخليج، فيما تراقب واشنطن من بعيد، تتساءل عمّا بقي لها من تأثير في بلدٍ طالما كان ميدانًا لصراع النفوذ.
أما غزة، فهي المرآة التي تشظّت فيها صورة أميركا بالكامل. الأزمة الإنسانية والدمار الممنهج، وغض الطرف الأميركي، ثم محاولات الضغط الفاترة على إسرائيل، أظهرت أن واشنطن باتت قوة تفتقر إلى الأخلاق، قبل أن تفتقر إلى التأثير.
الشعوب العربية – حتى تلك التي كانت تحتفظ ببعض الرصيد الأميركي – أصبحت ترى في واشنطن راعيًا للازدواجية، لا للسلام. وهكذا، حين يتحدث ترامب عن “حلّ النزاع”، يُقابل بالكثير من الريبة والقليل من الجدية.
نتنياهو، شريك ترامب القديم، لم يعد يراه شريكًا حيويًا. المصالح الإسرائيلية باتت ترى في إطالة أمد الحرب فرصة تاريخية، بينما يرى ترامب في تهدئتها صفقة انتخابية.
التباعد هنا ليس سياسيًا فقط، بل استراتيجيًا: واشنطن تريد مخرجًا مشرّفًا، وتل أبيب تريد غنيمة ميدانية.
وما بين هذه الجبهات، يقف ترامب مدججًا بشعارات ماضية، يطلق تهديدات لا يخشاها أحد، ويستعرض عضلات رمزية في عالمٍ لم يعد يُقاس بالقوة وحدها.
إنه عالم الحسابات الدقيقة، والسلطة الناعمة، والمعارك النفسية التي لا تجدي معها تغريدات ترامب ولا استعراضاته.
ولم يعد غريبًا أن يخرج رؤساء كزيلينسكي ورامافوزا من لقاءات البيت الأبيض وهم أكثر ترددًا لا حماسًا، إذ لم تعد الدعوة إلى واشنطن بمثابة ختم شرعي للقيادة، بل مناسبة لإملاءات شخصية بلا مقابل.
ترامب، الذي اعتاد أن يرهب الخصوم ويُذلّ الحلفاء، لم يفهم أن العالم تغيّر: أن السيادة لم تعد تُشترى، وأن الاحترام لا يُنتزع بالغطرسة.
وهكذا، لا يواجه ترامب بوتين وحده، ولا الصين، ولا إيران، ولا حتى أوروبا أو إسرائيل. إنه يواجه الحقيقة المجردة: أن أميركا التي عرفها القرن العشرون لم تعد، وأن القرن الحادي والعشرين يصوغ نظامًا دوليًا لا يقوم على الهيبة وحدها، بل على التوازن والندية والتعدد.
في هذا الزمن الجديد، يُعيد ترامب اكتشاف موقعه، لا كرجل فوق العالم، بل كرئيس في عالمٍ لم يعد يخاف أميركا.
ذلك هو زمن ما بعد الهيبة.