image

لندن – علي عبد الرحمن

ليست كل عدسة تُظهر القصة كما هي، فبعضها يكتبها من الخلف، من يد أنثوية اختارت أن تصوغ الحكاية لا أن تُروى ضمنها. خلف الكاميرا، نهضت نساء عربيات من الظل إلى الضوء، لا كرموز على الشاشة، بل كصانعات لصورتها، وكاتبات لمصيرها.

في مشهد سينمائي طالما سيطر عليه الحضور الذكوري، برزت ثلاث مخرجات عربيات قدمن تجارب مغايرة، وفرضن حضورًا فنيًا وفكريًا يغيّر النظرة التقليدية للمرأة في السينما. في هذا التقرير، نسلّط الضوء على تجارب: هيفاء المنصور من السعودية، نجوى نجار من فلسطين، وكوثر بن هنية من تونس، وهنّ من وضعن للكاميرا بوصلة جديدة تُعيد تعريف السرد النسائي في عالم الفن السابع.

هيفاء المنصور: كاميرا ضد الصمت

في مملكة الصمت الطويل، رفعت هيفاء المنصور كاميرتها كأنها بندقية ضد القوالب الجاهزة. في فيلمها الشهير وجدة (2012)، لم تحكِ قصة فتاة تحلم بدراجة فحسب، بل أرّخت لمسيرة أنثى تتحدى القيود وتشق طريقها وسط شوارع الرياض المحافظة.

هيفاء، أول مخرجة سعودية، اضطرت أحيانًا للاختباء خلف الجدران أثناء التصوير، تتواصل عبر الهاتف اللاسلكي مع طاقمها، لكن هذه الصورة التي تبدو هشّة كانت في حقيقتها إعلانًا عن ولادة سلطة سرد نسوية جديدة، تقود من الخلف وتُحدث ضجيجًا في الأمام.

لم تقف عند وجدة، بل عبرت إلى العالمية عبر فيلم Mary Shelley عام 2017، مؤكدة أن المرأة العربية يمكن أن تتحدث بلغة السينما العالمية دون أن تتخلى عن هويتها.

نجوى نجار: الكاميرا على مفترق الحب والحصار

في فلسطين، حيث الجدران أكثر من الطرق، اختارت نجوى نجار أن تحمل الكاميرا كمرآة للحب في زمن الاحتلال. أفلامها، من عيون الحرامية (2014) إلى بين الجنة والأرض (2019)، تقدم خطابًا سياسيًا نسويًا ناعمًا، يعيد للمرأة الفلسطينية مكانتها كفاعلة لا كرمز مقاوم فقط.

نجار تكتب من داخل المخيم، من قلب الحياة اليومية، وتطرح أسئلة صعبة عن الوطن، الانتماء، والهوية، من خلال لغة بصرية تدمج بين الحب والسجن، بين الحدود والعاطفة. إنها سينما تتسلل إلى الذاكرة لا بالشعارات، بل بالمشاعر.

كوثر بن هنية: تفكيك الذكورة بعد الثورة

حين اندلعت الثورة في تونس، كانت كوثر بن هنية قد أمسكت بكاميرتها، لا لتُسجّل اللحظة، بل لتُحللها وتعيد تركيبها. في فيلمها على كف عفريت (2017)، قدّمت صدمة بصرية تناولت اغتصاب فتاة على يد الشرطة، لكنها تجاوزت الحادثة إلى تفكيك خطاب السلطة والذكورة في المجتمع التونسي.

أعمالها تجمع بين الوثائقي والروائي، بين الذاتي والسياسي. الرجل الذي باع ظهره (2020) مثلًا، يقدم نقدًا حادًا لعلاقة الفن بالاستلاب، حيث يتحول الجسد العربي إلى لوحة تُباع وتُعرض في متاحف الغرب. كوثر لا تقدّم قصصًا تقليدية، بل تشكّل عالمًا سينمائيًا مركبًا يتحدى البديهيات، ويفكك السرديات المألوفة من الداخل.

خطاب نسوي يقتحم بنية السرد

ما يجمع بين هيفاء، نجوى، وكوثر، ليس فقط كونهن نساء خلف الكاميرا، بل قدرتهن على اختراق بنية السرد السينمائي الذكوري، وتحويل المرأة من موضوع للتمثيل إلى ذات تمثّل نفسها. لم تعد المرأة تُرى فحسب، بل أصبحت ترى بعينيها، وتُعيد تعريف دورها في المشهد البصري العربي والعالمي.

الإنتاج كأداة مقاومة ناعمة

اللافت أن هذه المخرجات لم يكتفين بالإخراج، بل خضن مجال الإنتاج السينمائي، للتحكم في سرديتهن وفرض استقلاليتهن. هيفاء عملت ضمن شركات دولية لفتح الأبواب أمام الشابات، نجوى أسست شركتها الخاصة، أما كوثر فأصبحت شريكة في إنتاج أفلامها وكتابة نصوصها.

ووفقًا للناقدة الفنية رانيا الزاهد، فإن هؤلاء النساء لا يمثلن فقط تمكينًا نسويًا، بل تغييرًا جذريًا في قواعد الحكي وتشكيل ذاكرة بصرية عربية بديلة، أكثر صدقًا، أقل خضوعًا، وأكثر جذرية.

سينما نساء تكتب الزمن

لم تعد الكاميرا أداة ذكورية صرفة، بل تحوّلت إلى قلم نسوي يُعيد كتابة الزمن من منظور آخر. خلف العدسة، ولدت ثورة هادئة، فنية، سياسية، وجمالية، تؤمن أن المرأة حين تمسك بالكاميرا، لا تلتقط الصورة فحسب، بل تُعيد بناء العالم، بلغة تشبه صوتها ومرآة تُشبه ملامحها.