أزمات الجالية السودانية في أيرلندا: بين نبل التأسيس وخطر التسييس

لا تزال الحرب العبثية في السودان تحصد الأرواح وتدفع بالملايين إلى النزوح هربًا من الجحيم المستعر في وطنهم. ومع انسداد الأفق وغياب الأمل، أُغلقت الأبواب في وجوههم، وازدادت معاناتهم في الصحارى والمخيمات وعلى حدود الدول القريبة والبعيدة، فبرزت أزمة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث. لكن الحرب لم تكتفِ بتمزيق الداخل، بل امتدت شظاياها إلى الجاليات السودانية في المهجر، فأحدثت انقسامات حادة، وخلخلت بنيات مجتمعية كانت تقوم على التآخي والتعاون، ومن بينها الجالية السودانية في أيرلندا. لقد كانت جاليتنا، حتى وقت قريب، أنموذجًا مضيئًا في التماسك والعطاء والعمل الطوعي الخالص. فقد قامت على أكتاف نخبة وطنية مستنيرة، جمعتها المحبة الصادقة للوطن، وتجاوزت الاعتبارات الحزبية والأيديولوجية
أسماء بارزة تركت بصمات لا تُنسى؛ الشيخ يحيى، د. أسامة الأمين، الأستاذة سلمى أب شيبة – التي استحقت بحق لقب “ملكة النحل” في عطائها وتفانيها – إضافة إلى جيل التأسيس من الأساتذة والأطباء والعلماء، أمثال د. طارق المصباح، د. مرتضى سرالختم، د. أسعد العباس، د. عادل دفع الله، د. حسن نمر، د. سامي السر، د. هاشم عجيب، خالد سرالختم، إيهاب السر، والراحل المقيم د. صلاح وداعة، وغيرهم كثير ممن حملوا عبء البناء في صمت ونبل. عملت الجالية، في تلك الحقبة، على أساس قومي جامع، وانفتحت على جميع أبنائها بمختلف خلفياتهم. وتعاونت مع منظمات فاعلة مثل “منتدى د. عماد الثقافي” و”مجموعة دعم الثورة”، فصارت مظلة جامعة لكل أطياف السودانيين، محصّنة من الاستقطاب والتحزّب. إلا أن هذه الصورة الوضيئة بدأت تتصدع مع بروز محاولات منظمة لاختراق الجالية سياسيًا، كان أبرزها التدخل العلني للسفير السوداني الأسبق في دبلن، عبدالله الأزرق، المحسوب على نظام المؤتمر الوطني البائد. ومن خلال النفوذ والمال، استطاع استمالة بعض عناصر اللجنة التنفيذية السابقة، وتجنيد أفراد في السفارة والساحة المجتمعية. ومن أبرز الوجوه التي ساعدته أحد الناشطين المعروفين بتوجهاته اليسارية الواضحة. وقد أدت هذه التحركات إلى شرخ كبير في بنيان الجالية، وتسببت في سقوط مدوٍ للجنة التنفيذية السابقة، في أكبر جمعية عمومية شهدتها الجالية منذ تأسيسها.
اليوم، تتكشف أمامنا محاولات مستمرة لتسييس العمل العام داخل الجالية، تقودها عناصر حزبية وإعلامية محسوبة على ما يسمى بـ”قوى الحرية والتغيير – صمود”، تحديدًا الجناح التنظيمي لحزب المؤتمر السوداني. وتشير مشاهداتنا إلى سعي واضح للهيمنة على مفاصل الجالية، وتوجيهها لخدمة أجندات سياسية ضيقة، بعيدًا عن رسالتها الأصلية كمنظمة اجتماعية وثقافية جامعة. ومن أبرز تجليات هذا التسييس ما قام به الحزب عبر أذرعه داخل اللجنة التنفيذية الحالية، حينما طرح مسودة دستور جديدة وُضعت على عجل وبصورة مريبة وأحادية. جاءت المسودة خالية من العمق المؤسسي، ضعيفة من الناحية القانونية، وصيغت بروح إقصائية، ما عكس غياب الفهم لطبيعة العمل المدني الطوعي في بلاد المهجر. وقد فطن أعضاء الجالية إلى الأهداف الخفية الكامنة وراء هذه المبادرة، فجاء الرد عبر العزوف الجماعي عن المشاركة، باستثناء المنتمين للحزب الذين ظلوا يديرون المشهد من خلف الكواليس. وقد جسّدت هذه الخطوة امتدادًا لمحاولات تفريغ العمل المجتمعي من محتواه الوطني الجامع، وتحويله إلى ساحة صراع سياسي عقيم.
أما اللجنة الحالية، المنتخبة في أكتوبر 2023، فلم تقدّم حتى الآن نموذجًا قياديًا مقنعًا أو مشروعًا متماسكًا. تُدار الجالية اليوم – للأسف – بأسلوب فردي، بلا رؤية واضحة، ما جعل الرئيسة المنتخبة تبدو، عن قصد أو غير قصد، أداة لتنفيذ أجندات محددة. وقد أدى هذا النهج إلى نفور غالبية الأعضاء، وتراجع النشاطات إلى أدنى مستوياتها. ونحمّل، بكل موضوعية، كلًا من الرئيس، والسكرتير الاجتماعي، والسكرتير المالي، مسؤولية هذا التدهور، بدءًا من الإدارة المرتبكة، وانتهاءً بمهزلة طرح مسودة الدستور الأخيرة، التي كانت نموذجًا لمحاولة فرض الإرادة الحزبية على جسد الجالية.
إن العمل العام، خاصة في إطار الجاليات، هو تكليف لا تشريف. يتطلب الكفاءة، والنزاهة، والتجرد، لا الانتهازية أو المكايدة أو تسيير الأجندات الضيقة. والتاريخ لن يرحم أولئك الذين يسعون لاستثمار آلام الناس وانشغالهم بوطنهم الجريح لخدمة مشاريعهم السياسية أو الشخصية. نحن اليوم أمام مفترق طرق حقيقي، إما أن نعود إلى درب العمل العام النزيه، القائم على التعاون والإيثار وخدمة الناس، وإما أن نواصل الانحدار نحو التشظي والانقسام، فنخسر ما تبقى من ثقة، ونبدد إرثًا من العطاء والاحترام. إن الجالية السودانية في أيرلندا لا تستحق هذا العبث. بل تستحق قيادة موحدة، نزيهة، كفؤة، تُعيد إليها بريقها وتماسكها، وتضع مصلحة أبنائها فوق كل اعتبار. ومن واجبنا، كأعضاء ومؤسسين ومحبين، أن نحفظ لهذه الجالية تاريخها، ونحميها من مشاريع الهيمنة، مهما تلونت بالشعارات أو ارتدت عباءة الوطنية الزائفة.