
من الساحل الأفريقي (أرشيفية)
لندن – رامي يحيى
تشهد منطقة الساحل وغرب أفريقيا انفجارًا غير مسبوق في وتيرة الهجمات الإرهابية، وسط تحوّلات خطيرة تنذر بتحوّل الإقليم إلى مسرح فوضى أمنية مزمنة، تقف وراءها عوامل محلية ودولية معقدة. وبينما سقطت ثكنات في مالي بيد تنظيمات مرتبطة بالقاعدة، هزت نيجيريا فضيحة تورط ضباط من الجيش والشرطة في تهريب الأسلحة إلى الجماعات الإرهابية، ما يطرح تساؤلات وجودية حول بنية الدولة في هذه المناطق، ويضع مستقبل المنطقة على حافة الهاوية.
مالي: سقوط الثكنات وتوسع القاعدة
في تطوّر يشي بتآكل السلطة المركزية، أعلنت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، الفرع المحلي لتنظيم القاعدة، عن سيطرتها على ثكنة عسكرية استراتيجية في شمال مالي مطلع يونيو، في عملية دامية أسفرت عن مقتل العشرات من الجنود، بينهم عناصر من قوات “فاغنر” الروسية التي حلت محل الوجود الفرنسي.
الهجوم، الذي تخلله تفجير انتحاري واشتباكات ضارية في تمبكتو، كشف قدرة الجماعة على التنسيق والتخطيط، فضلًا عن استيلائها على عتاد عسكري نوعي من معسكر “بولكيسي”. وقد عززت هذه المكاسب من موقع التنظيم داخل خارطة الإرهاب في الساحل، ووجهت ضربة سياسية ومعنوية لتحالف باماكو – موسكو.
نيجيريا: الفساد ينهش مؤسسة الأمن
في نيجيريا، لم تقتصر الأزمة على تصاعد العنف شمال شرق البلاد على يد جماعتي “بوكو حرام” و”داعش في غرب أفريقيا”، بل امتدت إلى داخل المؤسسات الأمنية نفسها. فقد كشفت السلطات نهاية مايو عن تورط 33 عنصرًا من الجيش والشرطة في تهريب أسلحة من مخازن الدولة إلى الجماعات الإرهابية.
الأخطر من ذلك، أن تحقيقات رسمية أثبتت أن الأسلحة المستخدمة في بعض الهجمات على المدنيين والطلاب تعود إلى ترسانة الجيش النيجيري نفسه، في مؤشر على اختراق حاد للمنظومة الأمنية وفشل جهود الإصلاح المتكرر.
السياق الإقليمي: أفريقيا في مرمى النار
وفقًا لتقرير “مؤشر الإرهاب العالمي 2024″، فإن 6 دول أفريقية – من بينها مالي ونيجيريا وبوركينا فاسو – باتت تشكل مركز الثقل العالمي للعمليات الإرهابية، حيث سجلت 51% من مجمل وفيات الهجمات عالميًا. ويعكس هذا الرقم المقلق حجم الأزمة البنيوية التي تعاني منها المنطقة، في ظل بيئة خصبة للتطرف والتجنيد المسلح.
الأسباب البنيوية لتصاعد الإرهاب:
ضعف سيادة الدولة: الفراغات الأمنية الشاسعة تتيح للتنظيمات حرية الحركة والتمدد.
الفقر والتهميش: غياب التنمية والخدمات يخلق حواضن اجتماعية للتطرف.
التوترات العرقية: تستغل الجماعات الانقسامات لتوسيع نفوذها.
التغير المناخي: أزمات المياه والزراعة تدفع السكان للنزوح والصراع.
الفساد والتواطؤ: كما في نيجيريا، تساهم اختراقات الأجهزة الأمنية في تأزيم الوضع.
المطلوب: استراتيجية متكاملة تتجاوز الأمني
يرى محللون أن الحلول الأمنية وحدها لن تنجح في كبح جماح الإرهاب في غرب أفريقيا. المطلوب هو مقاربة شاملة تعيد بناء الدولة من القاعدة، تشمل الحكم الرشيد، مكافحة الفساد، دعم التعليم والعمل، وتعزيز الحوكمة المحلية. كما يُعد التعاون الإقليمي والاستخباراتي ضرورة ملحة، في ظل تعقيد التحديات وتشابكها عبر الحدود.
الدور الدولي يجب ألا يقتصر على الدعم العسكري، بل يمتد إلى الاستثمار في بناء القدرات المؤسسية، وتمكين المجتمعات من مقاومة التطرف من الداخل.
الخلاصة:
ما يجري اليوم في مالي ونيجيريا ليس مجرد تصعيد إرهابي تقليدي، بل مؤشر على انزلاق أوسع نحو فوضى مركبة قد تعصف بجغرافيا الساحل وغرب أفريقيا لعقود قادمة. الفساد الأمني، التهميش الاجتماعي، والتدخلات الدولية غير المدروسة، كلها عناصر تغذي النار وتُفرغ الدولة من معناها. ولا شك أن غياب التحرك الجاد، أفريقيًا ودوليًا، سيفتح الباب أمام جحيم لا يمكن احتواؤه لاحقًا.