
رجل فلسطيني يحمل جثمان طفله الذي قُتل في غارة إسرائيلية على غزة (الغارديان)
في كل مرة يلوح فيها الأمل، يعود الصراع ليحتل المشهد من جديد. في ليبيا كما في غزة، تتكرر معادلة مؤلمة: محادثات ماراثونية، ووعود دولية، وضغوط إقليمية، ثم… لا شيء. تتهاوى التسويات عند عتبة التنفيذ، وتنفجر الجبهات من جديد. لماذا تفشل التسويات العربية دائمًا في “اللحظة الأخيرة”؟ وهل هي لعنة محلية أم نتيجة تشابك إقليمي دولي؟
لحظة الفشل تتكرر.. بنسق ثابت
سواء تعلق الأمر بالمصالحة الليبية بين الشرق والغرب، أو باتفاقات التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل برعاية مصرية وقطرية، فإن نقطة الانهيار شبه متطابقة: توقيع هش، قوى مترددة، وأطراف خارجية تتدخل في اللحظة الحرجة لتقويض المسار.
في ليبيا، انهارت عشرات المبادرات الأممية والعربية بسبب الصراع على الشرعية والموارد. وفي غزة، تفشل مسارات التهدئة بسبب الخلافات الداخلية من جهة، واعتبارات إسرائيل الأمنية من جهة أخرى، مع تغذية الوضع من أطراف دولية وإقليمية.
تشخيص أولي: وسطاء بلا أدوات ضغط
يرى محللون أن الدور العربي في إدارة الصراعات غالبًا ما يفتقر إلى أدوات الفعل الحقيقي، ويكتفي بوساطة شكلية دون قدرة على فرض تنفيذ الاتفاقات.
🔹 الباحثة الفرنسية إيزابيل لوران – معهد العلاقات الدولية – باريس
“المعضلة ليست في غياب المبادرات، بل في هشاشتها. العرب لا يملكون أوراق ضغط حقيقية على الأطراف، وغالبًا ما يكونون جزءًا من الصراع نفسه، مما يفقدهم الحياد اللازم.”
العامل الإقليمي: صراع أجندات بدل تكامل المصالح
من الواضح أن غياب التنسيق العربي المشترك يفتح الباب أمام تناقضات كارثية. في ليبيا، تدعم بعض الدول العربية قوى متصارعة، بينما في الملف الفلسطيني، تتقاطع حسابات القاهرة والدوحة وأبوظبي والرياض بطريقة لا تسهم في إنتاج موقف عربي موحد.
🔹 د. ريتشارد غولدبيرغ – مركز الدفاع عن الديمقراطيات – واشنطن
“الشرق الأوسط تحكمه اليوم مصالح متضاربة بين اللاعبين العرب أنفسهم. عندما لا يوجد إجماع داخل الجامعة العربية، فمن الطبيعي أن تسقط أي مبادرة في اللحظة الحاسمة.”
دوليًّا: تسويات مرهونة بالمصالح الغربية
لا يمكن تجاهل دور القوى الكبرى التي تتعامل مع النزاعات العربية كأوراق تفاوض في صراعات أوسع. في الملف الليبي، تدخلت فرنسا وروسيا وتركيا بشكل مباشر، فيما تُبقي الولايات المتحدة ملف غزة ضمن أولويات أمن إسرائيل، وليس ضمن أولويات السلام العادل.
🔹 المحلل السياسي الألماني توماس بيرغر – جامعة ميونيخ
“الولايات المتحدة لا تسعى لحل شامل في غزة، بل لإدارة الصراع بما يحمي المصالح الإسرائيلية. أما أوروبا، فهي تعاني من الانقسام والعجز، وتكتفي بإصدار البيانات.”
البُعد المحلي: أطراف لا تريد إنهاء الصراع
في كثير من الحالات، يجد أمراء الحرب في استمرار الأزمة وسيلة لضمان نفوذهم وتمويلهم. في ليبيا، يُراكم قادة المليشيات ثروات هائلة من الفوضى. وفي غزة، تساهم الانقسامات بين فتح وحماس في إضعاف أي جهد حقيقي لتوحيد القرار الفلسطيني.
🔹 ندى حسن – باحثة عربية مستقلة – لندن
“هناك طبقة سياسية في عدد من الدول العربية أدمنت العيش في ظل الأزمات. أي حلّ نهائي يعني تقليص النفوذ والامتيازات، ولهذا لا يُمنح أي اتفاق فرصة للحياة.”
هل يمكن كسر الحلقة المفرغة؟
قد يكون الحل في إعادة تعريف مفهوم التسوية عربيًا. فبدلًا من التعويل على المبادرات الخارجية، لا بد من خلق آلية عربية موحدة لحل النزاعات، مدعومة بإرادة سياسية حقيقية، ومحصنة من التأثيرات الأجنبية.
🔹 د. جورجيو كارلو – مركز الأبحاث المتوسطية – روما
“التسويات تحتاج إلى وقت، وجرأة، وتنازلات متبادلة. على العرب أن يفهموا أن الحلول لا تُولد من رحم البيانات، بل من قرارات استراتيجية وشجاعة سياسية.”
خلاصة
من ليبيا إلى غزة، تمر التسويات العربية كل مرة عبر الطريق ذاته، وتتعثر عند المنعطف الأخير. بين ضعف الوسيط، وتناقضات الفاعلين، وتضارب المصالح، لا يزال السلام هدفًا بعيدًا. ولكن يبقى الأمل قائمًا: أن تُدرك المنطقة أن كلفة الفشل أكبر من كلفة التسوية.
وحدة السياسة – لندن – اليوم ميديا