image

فلسطينيون أصيبوا بنيران إسرائيلية أثناء تجمعهم بالقرب من مركز مساعدات غذائية يتلقون الرعاية في مستشفى ناصر في خان يونس من المصدر

في عمق الحصار الذي يلف قطاع غزة، وتحت وابل القصف الإسرائيلي المتواصل، تتعالى تساؤلات ملحة عن الموقف المصري، وعن الدور التاريخي الذي يبدو أنه يتراجع شيئًا فشيئًا. في العلن، تؤكد القاهرة دعمها للفلسطينيين، وتفتح معبر رفح بين الفينة والأخرى، غير أن الواقع على الأرض يشي بصورة أكثر تعقيدًا، ويثير أسئلة موجعة: هل تخلّت مصر عن غزة؟ وهل باتت غزة عبئًا استراتيجيًا على الدولة المصرية؟

منذ اندلاع جولة الحرب الأخيرة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، واشتداد الكارثة الإنسانية، بدا أن القاهرة تحاول تحقيق توازن صعب: عدم الصدام مع إسرائيل، واحتواء الضغوط الدولية، والحرص على أمنها القومي من جهة سيناء، حيث تعيش تهديدات أمنية كامنة. لكن هذا التوازن يوشك أن ينكسر مع كل غارة جديدة ومع كل شهيد يُسحب من تحت الأنقاض.

من قطاع غزة

“مصر قلقة، لكنها مربكة”.. هكذا وصف الباحث البريطاني ديريك هولمز، من معهد لندن للسياسات الخارجية، الموقف المصري، مضيفًا: “القاهرة لم تعد تملك هامش المناورة الذي كانت تملكه في السابق. هي تسير بين حقل ألغام داخلي وخارجي.”

خلفيات تاريخية.. وواقع مختلف

لطالما شكلت مصر رئة غزة، ووسيطها الأول في كافة جولات الصراع. لعبت أدوارًا حاسمة في وقف إطلاق النار في أكثر من مرة، واحتضنت جلسات مصالحة فلسطينية. غير أن السنوات الأخيرة حملت تحولات لافتة، ليس فقط في علاقة مصر بحماس، بل في طريقة إدارتها للملف الفلسطيني ككل.

تغيرت النظرة الأمنية المصرية لغزة، خاصة بعد أن أُدرجت حركة حماس، لفترة من الزمن، ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، قبل أن يتم إعادة النظر في هذا التصنيف لاحقًا. ومع تطبيع عدد من الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، باتت القاهرة أكثر حرصًا على عدم فقدان توازنها الإقليمي.

من قطاع غزة

يقول الصحفي الأميركي جيمس كوفمان، من مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن: “ما يحدث في غزة الآن اختبار أخلاقي للقيادة المصرية. لا يمكن القبول بأن يُترك القطاع ليواجه مصيره بلا موقف سياسي حاسم.”

كارثة إنسانية على الحدود

تتعاظم الأزمة في القطاع المحاصر: مستشفيات انهارت، مخيمات امتلأت بالجثث، والغذاء بات شحيحًا. آلاف العائلات الفلسطينية تتدفق نحو الجنوب، علّها تقترب من بوابة النجاة. لكن معبر رفح لا يُفتح دائمًا، وإن فُتح، فبشروط صارمة وقيود ثقيلة.

الخبير الأممي في الشؤون الإنسانية، مايكل رينولدز، يرى أن “إغلاق المعبر بوجه الجرحى، وبقاء المساعدات متكدسة على الجانب المصري، يخلق انطباعًا بأن مصر لم تعد تنظر لغزة كجزء من مسؤوليتها الأخلاقية والتاريخية.”

ومع ضغوط إسرائيل على مصر لتقييد دخول مواد محددة، وتردد بعض الأطراف الدولية في الضغط المباشر على القاهرة، يجد الغزيون أنفسهم عالقين بين المطرقة والسندان.

هل تخشى مصر انفجار غزة؟

على الجانب الآخر، تعاني مصر من مخاوف أمنية مزمنة، إذ أن إدخال أعداد كبيرة من الفلسطينيين النازحين قد يفتح سيناريوهات مقلقة، منها التوطين أو تسلل عناصر مسلحة. وهي مخاوف تراها القاهرة جوهرية.

من قطاع غزة

لكن هذه الذرائع لا تصمد طويلاً أمام مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، ونداءات الأمهات على بوابة المعبر. يطرح البعض في الإعلام المصري الرسمي رواية مفادها أن مصر تفعل ما بوسعها، غير أن الرواية لا تجد آذانًا مصغية في ظل استمرار المجازر.

“مصر لا تستطيع أن تبقى محايدة حين تُباد غزة”، يقول الفرنسي جان مارك لوران، من المعهد الأوروبي للسلام، مضيفًا: “الصمت الطويل يتحول إلى موقف، وإذا طال، فسيتحول إلى شراكة في الكارثة.”

صوت الغضب داخل مصر

لم يكن الداخل المصري بعيدًا عن هذه المأساة. فقد ظهرت أصوات غاضبة من شخصيات عامة وإعلاميين، تنتقد أداء الدولة تجاه غزة، بل وتطالب بخطوات أكثر جرأة تجاه إسرائيل، كاستدعاء السفير أو تجميد اتفاقات معينة.

لكن الدولة، المنشغلة بأزمتها الاقتصادية، وبتجاذبات الإقليم، تكتفي بردود فعل محسوبة. وما يزيد الطين بلة هو غياب موقف عربي موحّد، ما يُضعف أوراق القاهرة ويجعلها حذرة للغاية في تحركاتها.

خاتمة.. ما بعد الحياد

في ليل غزة الطويل، يبحث الفلسطيني عن شمعة أمل. عيونهم تتجه نحو القاهرة، لا لشيء سوى لأنها كانت دومًا الأم التي تستقبل أبناءها مهما اشتد عليهم البلاء.

تصاعد الدخان عقب الغارات الإسرائيلية على حي التفاح في مدينة غزة – غيتي

لكن الواقع اليوم يفرض معادلات أخرى، والمطلوب ليس فقط موقفًا سياسيًا، بل استعادة روح الدور المصري في القضية الفلسطينية.

إن ترك غزة وحدها سيكتب فصلًا حزينًا في التاريخ العربي الحديث، وسيؤسس لشرخ عميق في وجدان الأمة. وفي النهاية، كما يقول المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل: “حين تسقط قضية، لا يسقط طرفها فقط، بل يسقط كل من خذلها.”

فهل تختار القاهرة أن تكون شريكة الحياة.. أم شاهدة على المأساة؟

لندن: تحليل خاص لـ ‘اليوم ميديا

اليوم ميديا، موقع إخباري عربي شامل، يتناول أبرز المستجدات السياسية والاقتصادية والرياضية والثقافية، ويتبع شركة بيت الإعلام العربي في لندن.