image

ترامب ومحمد بن سلمان

تشهد المنطقة العربية، لا سيما سوريا، حالة من التوتر المتصاعد والتقلبات السياسية الحادة، في ظل صراعات إقليمية ودولية متشابكة. في قلب هذا المشهد المضطرب، يبرز مشروع تقسيم سوريا كأحد الملفات الأكثر سخونة، حيث تتحرك إسرائيل بخطى عسكرية واستراتيجية لتوسيع نفوذها في الجنوب السوري، فيما تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدعم خليجي جزئي، لفرض ما تسميه “الشرق الأوسط الجديد” عبر توسيع اتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل.

لكن هذا المشروع الطموح يصطدم بعقبة جوهرية: امتناع السعودية عن الانضمام رسميًا لمسار التطبيع، إلى جانب الصمت التركي المحيّر، ما أدى إلى تعقيد الحسابات الأميركية والإسرائيلية بشأن مستقبل سوريا وشكل النظام الإقليمي الجديد.

بين نتنياهو وترامب: رؤيتان متنافرتان لسوريا

تكشف التحركات الإسرائيلية الأخيرة في الجنوب السوري، لا سيما الضربات الجوية المركّزة على مناطق ذات أغلبية درزية، عن توجّه استراتيجي واضح نحو تفكيك الدولة السورية وتقويض النظام القائم والميليشيات المتحالفة معه. ويعكس هذا التوجه رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر أن تقسيم سوريا والسيطرة على مفاصلها الأمنية أولى من تحقيق اختراق دبلوماسي في ملف التطبيع مع العرب.

في المقابل، تتبنى إدارة ترامب رؤية مغايرة تقوم على الحفاظ على سوريا موحّدة تحت نظام مركزي، بشرط أن يكون مواليًا للغرب، مع السعي لتوسيع دائرة التطبيع العربي الإسرائيلي ضمن إطار “اتفاقات أبراهام”. وفي هذا السياق، تُعد السعودية الركيزة المركزية لأي تحالف إقليمي جديد قادر على إعادة تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط.

الامتناع السعودي: ضربة موجعة لمشروع واشنطن

يُمثل تريّث السعودية ورفضها الانخراط المباشر في مسار التطبيع نقطة تحول استراتيجية، عرقلت مسار “الشرق الأوسط الجديد” منذ انطلاقته. فبالرغم من الضغوط الأميركية والإسرائيلية المكثفة، تظل الرياض حذرة في مواقفها، مدفوعة بعوامل داخلية، ومراعاة لموقف الشارع العربي، وتوازنات معقدة في الإقليم.

ويصف الباحث في السياسات الدولية ديفيد لورنس هذا الامتناع بـ”الضربة القاصمة”، مؤكدًا أن غياب الرياض عن طاولة التطبيع يشلّ القدرة الأميركية على إعادة ترتيب الساحة السورية، في ظل الحاجة إلى ثقل المملكة في هندسة أي تسوية مستقبلية.

أحمد الشرع.. هل بات ورقة محروقة؟

وسط هذا السياق، طفت على السطح تسريبات استخباراتية تتحدث عن احتمال استهداف الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، المحسوب على الرياض. ووفق تحليلات غربية، فإن هذه الرسائل تهدف إلى ردع السعودية، وتأكيد أن أي نظام في دمشق يجب أن يخضع للمعايير الأميركية، لا للمصالح الخليجية المستقلة.

لكن الموقف السعودي الحذر والمتحفظ على الدخول في شراكة غير مضمونة النتائج مع إسرائيل وأميركا، أوقف اندفاعة المشروع وأعاد خلط الأوراق عند حدود الرياض.

الغموض التركي: تحفّظ أم إعادة تموضع؟

في الضفة الأخرى من المعادلة، تظهر تركيا في موقف مائع، تُدين سياسياً الضربات الإسرائيلية، لكنها لا تتخذ خطوات ميدانية أو دبلوماسية قوية لمواجهة مشروع تقسيم سوريا. هذا الصمت لا يعني بالضرورة تواطؤاً، بل يعكس سياسة انتظار استراتيجية يديرها الرئيس رجب طيب أردوغان بعناية.

تركيا، كعضو في حلف “الناتو”، تحاول الموازنة بين دعم قوى المعارضة السورية، والحفاظ على خطوط التعاون مع واشنطن ودول الخليج. كما تسعى لفرض نفوذها جنوباً، خصوصاً في مناطق الأكراد، ما يجعلها تحتفظ بأوراق ضغط قوية دون الانخراط في مواجهة مباشرة مع إدارة ترامب.

ترامب يراهن على الرياض.. والرياض تعيد الحسابات

يدرك الرئيس ترامب أن رهانه على السعودية هو آخر فرصة لإنقاذ مشروع التطبيع، خاصة بعد فشل محاولات اختراق الموقفين التركي والقطري. لكن في المقابل، يبدو أن القيادة السعودية تتعامل مع الملف بمنطق السيادة السياسية، بعيدًا عن الضغوط اللحظية، وترى في الاندماج في المشروع الأميركي-الإسرائيلي مخاطرة قد تفجر الداخل العربي والإسلامي.

إجماع غربي: لا تسوية في سوريا دون توافق سعودي تركي

تشير تحليلات غربية متعددة إلى أن غياب السعودية وتركيا عن مشهد الحل السياسي سيُبقي سوريا رهينة التدخلات الخارجية والصراعات المتشابكة. تقول الباحثة إليزابيث غرين إن “السعودية تملك مفتاح الاستقرار الإقليمي، وامتناعها عن التطبيع يعطل مباشرة خطط واشنطن لإعادة إعمار سوريا”. وتضيف أن “تركيا في موقع مراقب لا أكثر، لكنها لن تقدم تنازلات مجانية تقوض نفوذها في الشمال السوري”.

أما لورنس فيرى أن “الأزمة السورية ستستمر ما لم تتفق القوى العربية الكبرى على رؤية موحدة، ولن يحدث ذلك دون فك عقدة التطبيع السعودي”.

خلاصة: مشروع “الشرق الأوسط الجديد” أمام اختبار الوعي الإقليمي

تبقى سوريا ساحة الصراع الأبرز بين القوى الدولية والإقليمية، وتُمثّل مختبرًا حيًا لقياس فشل أو نجاح الرهانات الأميركية والإسرائيلية في فرض واقع جديد. فبين مشروع نتنياهو التقسيمي، وطموحات ترامب بإعادة هندسة الإقليم عبر السعودية، تتداخل الحسابات، وتتباين الأولويات.

وما لم تتبلور رؤية إقليمية جامعة، يقودها محور سعودي-تركي متماسك، فإن “خطة الشرق الأوسط الجديد” ستظل في مهبّ الريح، وستبقى سوريا ساحة لحروب الوكالة بلا أفق لتسوية مستقرة.

لندن – اليوم ميديا