
الأمير تميم بن حمد
في الشرق الأوسط الذي ينهار على وقع الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى، برزت قطر كأنها الدولة الوحيدة القادرة على الحفاظ على لغتها الخاصة. لا تصرخ، لا تتبجّح، لكنها تتكلم مع الجميع: من تل أبيب إلى طهران، ومن واشنطن إلى حماس. لم تعد الدوحة وسيطًا، بل لاعبًا سياسيًا حاسمًا في أكثر الملفات تفجرًا.
الوسيط “الموثوق”: تراكم رأس المال السياسي
لا يمكن فهم التحول القطري إلى قوة دبلوماسية دون النظر في كيفية تراكمها لرأس المال السياسي على مدى عقدين. فبينما ركزت بعض دول الخليج على الاستثمار العسكري أو التسليحي، استثمرت الدوحة في بناء شبكة علاقات مرنة ومعقدة مع أطراف متناقضة: أميركا وإيران، طالبان والغرب، حماس وإسرائيل، السعودية وتركيا.

وفي هذا السياق، أشارت صحيفة الغارديان البريطانية إلى أن قطر، رغم صغر حجمها الجغرافي، تحولت إلى “الوسيط الذي لا يُستغنى عنه” في ملفات المنطقة، ما منحها مرونة دبلوماسية وقدرة على التحدث إلى الجميع بلا استثناء.
بين طهران وتل أبيب: الوسيط الذي لا ينام
في ساعات ما بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة على طهران، لم تكن الاتصالات تُجرى من أنقرة أو بغداد، بل من الدوحة. قطر، الصغيرة جغرافيًا، تحولت إلى قناة خلفية تُمرّر من خلالها واشنطن رسائلها إلى إيران، والعكس.
اللافت أن هذه الاتصالات جرت رغم احتضان قطر لأكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. لم يكن ذلك تناقضًا، بل علامة على أن الجميع – حتى المتخاصمين – يرون في قطر شريكًا يمكن الوثوق به، لاستخدامه عند الحاجة القصوى.
الدوحة بين الاستقرار والتغيير: نموذج فريد في هوية الخليج
على خلاف جيرانها مثل دبي النابضة بالحياة والرياض المتغيرة بسرعة، تحتفظ الدوحة بهويتها المحافظة والمتماسكة وسط تحولات عميقة في المنطقة. فبينما تخطو المدن المجاورة خطوات نحو الحداثة المتسارعة، توازن قطر بين المحافظة والانفتاح المعتدل، مع حضور نسائي بارز في المناصب الحكومية، ونظام اجتماعي ينظم الحريات بدقة دون تشدد.

هذا الاستقرار السياسي والاجتماعي الفريد، كما يشير ألين فرومهيرز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة ولاية جورجيا، يمنح قطر قدرة متفردة على مواجهة تحديات الداخل، ما ينعكس إيجابًا على مكانتها الإقليمية والدولية.
الغاز، لا السياسة فقط: قطر قوة استراتيجية جديدة
ليست الوساطة السياسية وحدها ما يصنع الثقل القطري. فالدوحة اليوم تمسك بمفتاح الطاقة النظيفة للعالم. أوروبا تعتمد عليها لفك ارتباطها عن الغاز الروسي، وآسيا ترى فيها البديل الأرخص والأكثر استقرارًا. وهذا ما أعطاها عمقًا سياسيًا لم يعد بالإمكان تجاهله.
في زمن التحولات، لا مكان لدولة محايدة بلا موارد. وقطر، بتريليوناتها الغازية، صنعت لنفسها منصة تضمن الاستماع لها لا لسبب إنساني، بل لحاجة استراتيجية.
الجزيرة: منصّة النفوذ الناعم
تعود قناة الجزيرة إلى لعب دورها المحوري في التوازن الإعلامي الإقليمي. لكنها في لحظات الأزمات الكبرى، تتحول إلى منصة شبه رسمية للرسائل المتبادلة بين الخصوم. تغطيتها للحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل أظهرت كيف أن الحياد المهني قد يكون أداة دبلوماسية بامتياز، تسهم في تشكيل الأجندة بدل أن تكتفي بوصفها.
الأمير تميم: صانع اللحظة القطرية
ربما لم يُراهن أحد كما راهن الشيخ تميم على خيار “الوساطة الكبرى” كسياسة خارجية. في الوقت الذي توزعت فيه العواصم العربية بين معسكرات التطبيع أو الخصومة المطلقة، كانت قطر تصيغ لغتها الخاصة: سياسة متداخلة، براجماتية بلا تنازل، وشبكة علاقات تسمح لها بلعب دور المرسل والمتلقّي في آن واحد.

اليوم، لا تمر أي أزمة إقليمية من دون أن تكون الدوحة جزءًا منها – إن لم تكن من صانعي نهاياتها.
الخلاصة: قطر ليست صغيرة بعد الآن
الذين سخروا يومًا من “قطر الصغيرة”، باتوا اليوم يتوسلون وساطتها. لم تعد الدولة التي تُستدعى لإنقاذ الرهائن فقط، بل أصبحت من تُبقي الأزمات الكبرى تحت السيطرة. وبينما تنشغل القوى الإقليمية بصراعاتها الوجودية، تنشغل قطر ببناء وجود لا يمكن تجاوزه.
لندن – اليوم ميديا