
أنور قرقاش
محمد فال معاوية
في مداخلة لافتة خلال قمة دبي للإعلام 2025، أطلق أنور قرقاش مواقف صريحة، بدا أنها تتجاوز المجاملة السياسية نحو تشخيص مباشر لحالة الإعلام العربي، وواقع الانقسام الإقليمي، وسط عالم يتغير بوتيرة متسارعة بفعل التكنولوجيا والاضطرابات الجيوسياسية.
بعيدًا عن لغة التهدئة، وجه قرقاش رسائل نارية ومباشرة، مسجّلًا انتقادات واضحة لما سمّاه “إعلام القاع”، محذرًا من الاستغراق في الأوهام الأيديولوجية، وداعيًا إلى صياغة سرديات واقعية تقوم على الإنجاز والتنمية والاستقرار، لا على الخطابات الانفعالية والشعارات المفرغة من المعنى.
لم يكن حديث قرقاش عن الذكاء الاصطناعي مجاملة للعصر الرقمي، بل تأكيد على أن ما يحدث اليوم يفوق بأثره ما أحدثه الإنترنت قبل عقدين. التحولات التكنولوجية العميقة تعيد تشكيل كل المنظومات: من الإعلام إلى الاقتصاد، ومن التعليم إلى الأمن القومي. وفي هذا السياق، يبدو أن الإمارات – بحسب قرقاش – تراهن على المستقبل من بوابة الذكاء الاصطناعي، فيما لا يزال جزء كبير من المنطقة عالقًا في جدالات الماضي.
في واحدة من أكثر تصريحاته حدة، اعتبر قرقاش أن الحملة الإعلامية ضد الإمارات “مصطنعة”، ولا تلقى صدى في الإعلام الجاد، بل تعيش فقط في فضاء منصات التواصل الملوثة بـ”إعلام القاع”. دعوته لم تكن لرد هجومي، بل لـ”رد ذكي”، يعزز السرديات الإيجابية، ويعيد الاعتبار للإعلام المهني كأداة بناء لا هدم.
الأهم في خطاب قرقاش، ربما، هو تشخيصه الحاد للانقسام العربي. قالها بوضوح: “لدينا اليوم عالم عربي منقسم إلى عالمين”. الأول يراكم فرص النجاح والاستقرار، والثاني غارق في أزماته البنيوية، محكوم بشعارات قديمة، وأوهام لم تعد تقنع أحدًا.
في هذا الطرح، ليست المسألة مقارنة بين دول الخليج ودول الأزمات، بل دعوة إلى مغادرة العقلية الأيديولوجية التي قزّمت السيادة الوطنية لصالح الميليشيات، والشعارات، والفراغ المؤسسي.
على غير عادة الخطابات البروتوكولية، لم يتردد قرقاش في الاعتراف بأن الإعلام العربي يمر بـ”فترة عدم وضوح طويلة”، وأنه بات عند مفترق طرق وجودي. فإما أن يتحوّل إلى إعلام تنموي يتفاعل مع التحولات التكنولوجية والاجتماعية، أو أن يواصل فقدان تأثيره لصالح “منصات التفاهة” وخطاب التشظي.
بعيدًا عن العبارات المعلبة، بدا خطاب قرقاش بمثابة دعوة صريحة لمراجعة خطابنا الإعلامي والسياسي، ليس فقط في الإمارات، بل في عموم المنطقة. الواقع العربي لا يحتمل المزيد من الإنكار: نخب قديمة، إعلام مأزوم، سياسات شعبوية، وانقسام يستنزف الجميع.
ما طرحه قرقاش هو خيار ثالث: لا تأليه للغرب، ولا تقديس للماضي، بل تفكير عقلاني يستثمر في الشباب والتعليم والتكنولوجيا، ويحرر الخطاب العربي من عقده المزمنة.
فهل تلتقط المؤسسات الإعلامية هذه الإشارة؟ وهل تدرك النخب السياسية أن زمن الشعارات انتهى، وأن الجمهور لم يعد قابلًا للابتلاع الإعلامي كما كان قبل عشرين عامًا؟