
من السفينة الحربية الكورية الشمالية العالقة
سليمان الراشدي
في أقصى الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الكورية، حيث تهمس الرياح بأسرار لا تُقال، يرقد هيكل سفينة حربية ضخمة على خاصرتها، كأنها حوتٌ معدني جريح لفظه البحر إلى اليابسة. تلك السفينة، التي أرادها كيم جونغ أون أن تكون أيقونة لعصر بحري جديد، تحوّلت في لحظة خاطئة إلى رماد الحلم وصدى الفضيحة.
لكنّ الحادثة لم تكن مجرد خلل ميكانيكي. فصور الأقمار الصناعية كشفت عن عشرات “البالونات البيضاء” التي تطفو حول السفينة الغارقة، كأشباح تُحرّس سرًا غامضًا. ليست أدوات إنقاذ فحسب، بل رسائل مشفّرة في مياه المواجهة الدولية: كوريا الشمالية لا تُخفي إخفاقها، بل تعرضه كاستعراض للقوة والقدرة على التحدي.
السؤال الذي يطفو هنا: هل هذه البالونات محاولة للتستر على السفينة من أعين الطائرات الأميركية المسيّرة؟ أم أنها جزء من عرض مسرحي موجّه بعناية إلى شخص واحد في واشنطن: دونالد ترامب؟
ترامب، الذي عاد إلى سدة الحكم محمّلًا بوعود الهيبة واستعادة الردع، يبدو وكأنه لا يزال يراهن على “العلاقة الطيبة” التي جمعته يومًا بكيم. لكنه ربما نسي أن في بيونغ يانغ، الفشل يُعاد إنتاجه كسلاح دعائي، وأن العار قد يتحوّل إلى عرض للقوة، والخوف إلى أداة في صناعة القرار.
كيم، الذي شاهد بعينيه حلمه يغرق، لم يُظهر انكسارًا. بل أمر باعتقال المسؤولين، وتعهد بإعادة السفينة إلى الحياة قبل اجتماع حزبه المرتقب، واصفًا الحادث بأنه “مسألة كرامة وطنية”. وفي قاموس كوريا الشمالية، الكرامة ليست قيمة إنسانية بقدر ما هي سلاح سيكولوجي يُستخدم في الحرب الإعلامية والنفسية.
لكن ما يجعل هذا الحادث مقلقًا بحق هو سياقه الزمني والجيوسياسي. ففي اللحظة التي يغلي فيها الشرق الأوسط على وقع حرب غزة، وتتعثر فيها واشنطن في إدارة التوازنات المعقدة بين إسرائيل والعالم، تُرسل كوريا الشمالية رسائلها من المياه الشرقية كأنها تقول: “لسنا بعيدين عن المعادلة”.
في إيران، يُعاد تشكيل النفس تحت وقع العقوبات، والعيون مفتوحة على اللحظة التي يزيح فيها العالم نظره. روسيا لا تزال تزدري البيت الأبيض وتواصل حربها في أوكرانيا بلا اكتراث. والصين، بحذرها الصامت، تُمسك بالخيوط من دون أن تلوّح بها.
وسط هذا كله، يظهر كيم كمَن يُلوّح ببالون، لكنه في الحقيقة يُشهر سكينًا.
السفينة قد لا تكون الخطر، بل ما تمثّله. والبالونات قد لا تكون مجرد أدوات طفو، بل ستارًا دخانيًا يخفي ما هو أخطر: رسالة إلى ترامب مفادها أن زمن الإخضاع قد انتهى، وأن الرهبة الآن تغيّرت وجهتها.
فمن يُخيف مَن؟
ترامب العائد متعطشًا للهيبة؟
أم كيم الذي يُحوّل الهزائم إلى مسرحٍ يبث الرهبة؟
في السياسة كما في البحر، لا يهم من يصرخ أولًا، بل من يصمد أطول.