
من مجزة جوعى غزة
محمد فال معاوية
في غزة، حيث تسيل دماء الأبرياء تحت رصاص «تحذيري» لا يرحم، لم يعد صمت العالم ممكناً. حتى الحجر، الذي كان شاهدًا صامدًا على المآسي، بات يصرخ من ظلم الجوع والقهر. ثلاثة وثلاثون شهيدًا قضوا وهم يلهثون خلف لقمة خبز، والرصاص يتطاير في كل الاتجاهات، والمساعدات تحولت إلى فخ للموت.
عشرات آخرون أصيبوا برصاص قناصة، أو رشاشات المدرعات، أو طائرات مسيرة. كانت النداءات تصرخ في العراء: «لا تتحركوا!»، لكن الرصاص تحرك في كل اتجاه.
تقرير CNN الأخير، المدعّم بشهادات وصور وفيديوهات وخبراء أسلحة، يفكك لحظة الرعب بالدليل والتحليل. الرصاص الذي سمعه العالم – وربما تجاهله – لم يكن وهمًا، والضحايا لم يكونوا «دروعًا بشرية» كما زعمت الآلة الدعائية الإسرائيلية. كانوا بشرًا جائعين، يحملون أطفالهم وأحلام البقاء، وسقطوا تحت نيران جيش يُفترض أنه يحمي مسار المساعدات.
لكن الأخطر من الرصاص، كان الصمت.
صمت الحكومات، صمت المؤسسات الدولية، صمت العواصم التي تتغنى بحقوق الإنسان، ولا تحرّك ساكنًا حين تُنتهك في وضح النهار وعلى شاشات العالم.
ما الذي ينتظره المجتمع الدولي ليقول: كفى؟
هل يجب أن تصل المجازر إلى ألف قتيل في موقع مساعدات حتى يتحرك مجلس الأمن؟
هل يجب أن تنفد أرصدة هواتف الضحايا، فلا تصلنا بعد الآن صرخات من تحت الأنقاض، حتى نصحو من سباتنا الأخلاقي؟
التحقيق الذي نشرته CNN لا يترك مجالاً للشك: هناك إطلاق نار كثيف من مواقع إسرائيلية على تجمعات مدنية معروفة، في توقيتات معلنة، وعلى طرق منسقة مع الجيش الإسرائيلي نفسه. ومع ذلك، تصر تل أبيب على الإنكار.
هذا التهرب من المسؤولية لا يمكن أن يمر دون حساب. فحين تُستخدم آلية توزيع المساعدات كغطاء للقتل، يصبح الجوع سلاحًا إضافيًا في الحرب. بل إن ما يجري اليوم في غزة لم يعد مجرد «أزمة إنسانية»، بل كارثة أخلاقية عالمية تُسائل شرعية النظام الدولي برمته.
لقد حذر مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، توم فليتشر، من أن آلية المساعدات التي تنسقها إسرائيل وتحظى بدعم أمريكي، تحولت إلى «فخ موت»، و«ستار دخاني للعنف والتهجير». وهو وصف لا يعبّر فقط عن فشل، بل عن تواطؤ ممنهج مع سياسات التجويع والقتل العشوائي.
هل غزة أضعف من أن تثير غضب الإنسانية، أم أن الإنسانية باتت تقيس الدم الفلسطيني بمكيال المصالح؟
ربما لم يعد الفلسطيني يطلب إنصافًا من المجتمع الدولي، بل فقط أن يُرى، أن يُسمع وهو يستغيث. أن يكفّ العالم عن تسويق رواية الجلاد، وأن يطرح سؤالًا بسيطًا: ماذا لو كانت هذه المذبحة في كييف؟ أو باريس؟ أو نيويورك؟
أمام هذا الصمت، تبقى الكلمة للشعوب، للمؤسسات الإعلامية المستقلة، لأصحاب الضمائر. فالمجزرة ليست فقط من أطلق الرصاص، بل من سكت عنه أيضًا.
وغزة اليوم، لا تحتاج فقط إلى خبز، بل إلى عدالة، وإلى صوت عالمي يصدح بالحقيقة، لا يخاف الابتزاز السياسي، ولا يبيع دماء الأطفال على موائد الصفقات.
فمتى يستيقظ الضمير؟