image

من جلسة مجلس الأمن بشأن وقف إطلاق النار في غزة

أنس مالك جودة

مرة أخرى، تسقط الإنسانية ضحية الحسابات السياسية في مجلس الأمن، ومرة أخرى تنفرد الولايات المتحدة باستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار يطالب بـ”وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة”. صوت 14 عضوًا لصالح القرار، فيما كانت واشنطن الصوت الوحيد المعارض، كأن العالم ينادي للحياة، وأمريكا تصر على موتٍ لا ينقطع.

هذا الفيتو، الأول في عهد الإدارة الثانية للرئيس ترامب تجاه قرارات حرب غزة، لا يحمل فقط دلالات سياسية، بل يكشف عن تحوّل مقلق في النظرة الأمريكية لمعاناة الفلسطينيين، الذين تجاوز عدد شهدائهم 36 ألفًا، وأكثر من نصفهم من النساء والأطفال الأبرياء.

القرار الذي رفضته واشنطن لم يكن متحيزًا لأي طرف، بل دعا إلى رفع فوري وكامل للقيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية، وإلى الإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن. لكن المندوبة الأمريكية دوروثي شيا بررت موقف بلادها بأنه لا يُدين “حماس”، ولا يدعوها لنزع السلاح أو الخروج من غزة، معتبرة أن القرار “يكافئ تعنتها”. هذا التبرير يعكس انعدام أي اعتبار للكارثة الإنسانية التي تتكشف يوميًا في القطاع، حيث بات موقع توزيع المساعدات ميدانًا لرصاص القناصة، وتحولت طوابير الجياع إلى ساحات قتل جماعي.

ففي فجر دموي، تساقطت دماء ثلاثة وثلاثين مدنيًا على الأقل، وهم يلهثون خلف لقمة خبز، والرصاص يتحرك بلا هوادة من جنود يُفترض أنهم يحرسون الأمن، لكنهم يقفون خلف موت لا يرحم. هذه المجازر لا تحدث في الخفاء، بل على مرأى العالم، وسط صمت دولي مخيف، وصمت مجلس الأمن الذي يُفترض به أن يحمي المدنيين، لا أن يغطي عليهم.

هل باتت المعاناة مشروطة بالإدانة؟ هل يجب أن يُدين الجائع قاتله ليحصل على رغيف خبز؟ وهل أصبحت إسرائيل فوق القانون الدولي، يُغض الطرف عن جرائمها باسم “محاربة الإرهاب”؟ إن هذا الفيتو الأمريكي ليس فقط تجاهلاً صارخًا، بل تواطؤًا سياسيًا مع معاناة الفلسطينيين، وتحويلًا مريعًا للحق الإنساني إلى ورقة ضغط سياسية.

في ظل هذا الرفض الأمريكي، هل ستستفيق أوروبا من ظل واشنطن؟ هل تدفعها هذه الصفعة إلى تحرك جريء يتمثل بالاعتراف بدولة فلسطين؟ هذا التحرك لم يعد خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أخلاقية تحث العالم على رد الاعتبار للضمير الإنساني. الدول التي بادرت بالفعل مثل السويد وإسبانيا وأيرلندا والنرويج قد تمهد الطريق أمام تحرك أوروبي أوسع، يعيد التوازن إلى الخطاب الدولي، ويمنح الفلسطينيين حقهم في أن يكونوا شركاء سياسيين، لا مجرد ضحايا لا صوت لهم.

في النهاية، فيتو واشنطن الأخير لا يعرقل قرارًا فقط، بل يعطل ضميرًا عالميًا يتشكّل ببطء، ويصادر أملًا في وقف نزيف الدماء. لكن، كما فشل الفيتو في إخماد صرخات غزة، سيفشل في منع الحقيقة من الوصول إلى شعوب العالم. فلو كانت الحكومات تُساوم، فإن الشعوب اليوم باتت تعرف تمامًا من يقف وراء استمرار المجازر، ومن يشرعن الجوع، ومن يتواطأ مع الجريمة بالصمت أو بالفيتو.

غزة ليست فقط أرض الألم والدم، بل صرخة في وجه الظلم، وصوت الحق الذي لا يمكن كتمانه.