image

الجامعة العربية في القاهرة

محمد فال معاوية

في فضاء منصة إكس، حيث الكلمات تحلق كسهام، انطلقت مؤخراً موجة تغريدات تعيد تسليط الضوء على أسماء سياسية عربية بارزة: عادل الجبير، أنور قرقاش، وحتى مصطفى مدبولي. ألسنة النار الرقمية هذه لم تكن مجرد همسات عابرة، بل كانت جزءًا من لعبة كبرى تُحاك في كواليس السياسة العربية، وسط خضم أزمات متشابكة: من نيران غزة المتقدة إلى صراعات ليبيا المحتدمة، ومن ضباب لبنان المعلق إلى فوضى السودان المتفجرة.

لكن ماذا وراء هذه الضجة؟ ومن يقف خلف هذا الهجوم الالكتروني المفاجئ على المنصب الذي طالما ظل محور جدل قديم – أمين عام جامعة الدول العربية؟

جامعة الدول العربية، المؤسسة التي تأسست منذ أكثر من ثمانين عاماً كمنبر يجمع العرب، سرعان ما تحولت إلى ظل باهت يمضي بلا وزن حقيقي على خارطة السياسة الإقليمية. كانت أحياناً مجرد منصة لخطابات وبيانات لا تسمن ولا تغني من جوع، وأحياناً أخرى ساحة لصراعات النفوذ والهيمنة بين عواصم تقاسموا سلطة رمزية، دون أن ينبثق منها أي مشروع عربي حقيقي.

هذه المؤسسة، التي يفترض بها أن تكون رأس الحربة في توحيد المواقف وصياغة السياسات المشتركة، أصبحت مع الوقت تمثيلاً للحفاظ على “العُرف” والامتيازات الجغرافية، لا على الكفاءة أو الاستحقاق السياسي. تعيين الأمين العام المصري، على سبيل المثال، لم يعد قراراً ميثاقياً بقدر ما هو إرث تاريخي لا يُمسّ، حتى ولو فقدت القاهرة، في بعض الأحيان، بريقها السياسي، وغابت عنها المبادرات الفعلية.

في الوقت الذي تراخى فيه تأثير الجامعة العربية، تبرز دول الخليج بقوة كقوى فاعلة على المسرح الإقليمي والدولي. السعودية والإمارات وقطر باتت أذرعًا مؤثرة في ملفات استراتيجية، تحمل أدوات نفوذ مالية ودبلوماسية تفوق بكثير ما يمتلكه الفضاء الجامعي العربي.

هذه الدول ليست فقط مستثمرين في الاقتصاد والثقافة، بل صانعين للقرار في ساحات حيوية من القرن الإفريقي إلى شرق المتوسط، ومن واشنطن إلى بكين.

قضايا المنطقة – من حرب غزة المشتعلة، إلى المآسي السياسية في ليبيا، لبنان، والسودان – لا تجد من يمثلها الجامعة العربية إلا بصمتها المتكرر وتراخيها المتواصل.

إذن، لماذا الجبير وقرقاش ومدبولي؟ وما الرسائل التي تحملها تلك التغريدات التي اجتاحت الفضاء الرقمي؟

ربما هي مؤشر على أن بعض الأطراف تسعى لتفكيك الجغرافيا السياسية القديمة التي رسمتها الجامعة العربية، وتعيد ترتيب الأوراق لصالح مشاريع جديدة تعكس القوة الفعلية في المنطقة.

الضجة الرقمية ليست عبثاً، بل تعبير عن صراع على النفوذ والقيادة، وصياغة مرحلة جديدة من التفاهمات، قد لا تمر بالطرق التقليدية التي اعتادها العرب. خلف هذه الحملات قد يكون هناك من يريد فتح الباب أمام أسماء وخبرات خليجية أو تكنوقراطية جديدة تأخذ بيد الجامعة من حالة الخمول إلى دور أكثر فعالية وحضوراً.

المنطقة في حالة غليان مستمر، وأزمات متراكمة لا تسمح لهدر المزيد من الوقت أو الإمعان في الروتين الجامعي الميت. حرب غزة تذكي النزاعات، وليبيا لا تزال تعيش صراعاً بين مصالح أجنبية ومحلية، والسودان يئن تحت وطأة الصراعات المسلحة، ولبنان ينهار اقتصادياً واجتماعياً.

في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن تبقى الجامعة مجرد شاهد صامت، أو ملعبًا لتبادل المنافع السياسية الجغرافية، بل لابد من إصلاح جذري يعيد لها دورها كبيت عربي جامع، ليس للزخارف الرمزية، بل لصناعة القرار والتأثير.

قد تكون تغريدات منصة إكس شرارةً لنقاش حقيقي وأعمق حول مستقبل الجامعة العربية، وقيادة جديدة تنبع من الواقع العربي الجديد، حيث الخليج يحكم الإيقاع ويعيد تشكيل المنطقة بحنكة وديناميكية.

أما إن بقيت الجامعة في صيغتها القديمة، فستظل مجرد ذكرى، وشاهدًا على زمن ماتت فيه الروح العربية الجماعية، وتهاوت معه آمال الوحدة والتقدم.