image

من مدينة غزة - وكالات

زيد بن كمي

همست أمُّ محمودٍ لطفلتِها وهي تحتضنُها وسط ظلامِ غزةَ «نمنا ليلة أخرى… وهذا وحده يكفي». لم تكنِ العبارة مجردَ كلمة وردت في إحدَى الروايات التاريخية الخيالية، بل شهادة وثّقها أحدُ العاملين في القطاع الصّحي شمال غزة، ونقلتها وسائلُ الإعلام هذا العام. كلماتُ تلك الأمّ الفلسطينية تشير إلى أنَّ البقاءَ على قيد الحياة في غزة باتَ ترفاً. وأنَّ غمضة عين في ظلّ قاذفات الرُّعب هي أقصى ما يمكنُ تمنيه.

الحقيقة أنَّ غزةَ أصبحت مسرحاً كارثياً للدَّمار… منازلُ مهدّمة، كهرباء مقطوعة، مياه شحيحة، ومستشفيات طالتها حممُ القذائف وما زالت تحاول أن تؤديَ الحدَّ الأدنى من وظيفتِها.

في الضَّفة الغربية، تتَّخذ المأساة شكلاً آخر… جرَّافات الاستيطان لا تتوقَّف، بيوتٌ تُهدم، والحياة تُسحق ببطء، في مشهدٍ لا يثيرُ أكثرَ من بيانات القلق الدولية.

على الجانب الآخر، تحتمي إسرائيلُ بمنظوماتِها الدفاعية وقببِها الحديدية، وأسلحتها الفتاكة، ورغم ذلك، لا يشعر الإسرائيليون بالأمنِ الحقيقي، فالقوةُ العسكرية وحدَها لا تصنع سلاماً، والخوفُ لا تحجبُه التكنولوجيا المتقدمة.

في هذا المناخِ القاتم، تعود السعوديةُ كدولةٍ إقليمية ومحورية ذاتِ مواقفَ واضحة تجاه القضية الفلسطينية والسَّلام العالمي، لتقودَ جهداً سياسياً حقيقياً، وتحالفاً دولياً يهدف إلى حلّ الدولتين، وهو تحركٌ كخيارٍ واقعي وضروري لوقفِ المأساة المتكرّرة عبر عقود.

في هذا الخضم، يأتي المؤتمر الدولي للسَّلام الأسبوع المقبل، تحديداً في الـ17 من يونيو (حزيران) وتحتضنه نيويورك بدعوة سعودية ـ فرنسية، ليحملَ رسالةً مفادُها بأنَّه آن الأوان لتحركٍ دولي فعليّ لحلّ هذا الصراعِ والوصولِ إلى حلّ الدَّولتين لاستقرار المنطقةِ وإيجاد أرضيةٍ للسلام.

وتحرُّكُ الرياض ينبع من إرثٍ تاريخي طويل، لدعم القضية الفلسطينية وإيجاد الحلول من أجلِ سلام عادل في المنطقة. فالرؤية السعودية تقوم على مبدأ السلام والاستقرار والتنمية والازدهار كحقّ لجميع الشعوب.

لذا، فإنَّ السعوديةَ لم تتردَّد يوماً في دعم الشعب الفلسطيني سياسياً ومالياً، وتقديم المبادراتِ التي تحفظ حقَّه، فكانت أولُ مبادرةٍ عربية من الملك فهد بن عبد العزيز عام 1982 حينما كانَ ولياً للعهد، وتبلورت لاحقاً بمبادرة الملك عبدِ الله في قمة بيروت 2002، حينما كان ولياً للعهد، لتصبح بعد ذلك «المبادرة العربية للسلام»، التي حظيت بالإجماع العربي، وهي مبادرةٌ متماسكةٌ، تمنح الفلسطينيين حقوقَهم المشروعة، وتضمن لإسرائيلَ أمنها، وتؤسسُ لسلام عادل وحقيقي في المنطقة، خارجَ الحساباتِ السياسية العدائية لنتنياهو وعناصر حكومته من المتطرفين، ومغامرات «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وغيرها من الفصائل، التي لم تجلب سوى القتلِ والانقسام والدَّمار للشعب الفلسطيني.

ومن الأشياءِ اللافتة التي تُذكر في هذا السياق أنَّ جامعة هارفارد، وهي جامعة أميركية مرموقة، أصدرت عام 2022 دراسةً أكّدت أنَّ حلَّ الدولتين يظلُّ الخيارَ الأكثر فاعلية لتحقيق سلامٍ عادل ومستدام، وحذّرت من أنَّ البدائلَ القائمة، سواء أكان الاحتلال طويل الأمد أم إدارة الأزمات، لا تؤدي سوى إلى مزيد من التَّطرف والانهيار، وتُبقي المنطقةَ بأسرها رهينةَ التوتر والعنف.

ربَّما يكون مؤتمر نيويورك بدايةَ طريق جديد، وربَّما لا، لكنَّه يطرح أسئلةً مهمة وهي: إلى متى تُدار المأساة بالتَّجاهلِ والمراوغةِ من كل الأطراف المتنازعة؟ وكيف يستمر العالمُ في حساب مواقفِه تجاه هذه المأساة الإنسانية؟ المؤكد أنَّ استمرار الصمت لم يعد حيادياً، وأنَّ تدوير الكارثة لم يعد ممكناً… لا أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا سياسياً.