لقطة الشاشة 2025-04-18 في 12.37.38 ص

صورة من نسخة "النيجاتف" لكفن تورينو "الكفن المقدس"

يُعَدُّ “الكفن المقدس” واحداً من أبرز الأثار الدينية غموضاً وإثارة للجدل، إذ يُعتقد أنه قطعة القماش التي لُفّ فيها جسد يسوع المسيح عند دفنه بعد أحداث الآلام، بحسب العقيدة المسيحية، وهو يحوي صورة باهتة لرجل يحمل علامات جروح نتيجة تنفيذ عقوبة الجَلد والصلب ضده، مما جعله موضع اهتمام واسع بين المسيحيين والعلماء، فهل حُسم الجدل بشأنه؟

يُعرف هذا الكفن، بعدة أسماء أبرزها “الكفن المقدس” أو “كفن المسيح” أو “كفن تورينو”، نظراً لوجوده في كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في مدينة تورينو بإيطاليا منذ القرن السادس عشر، كما عُرف بتسمية قديمة تعود إلى القرن العاشر الميلادي، بحسب مخطوطات، وهي “المنديل”، بل أصبح له علم خاص لدراساته يعرف بعلم دراسات الكفن المقدس “سندونولوجي Sindonology”.

ويتضح من وصف الإنجليزي إيان ويلسون في دراسته المتخصصة بعنوان “الكفن المقدس بتورينو” لمظهر الكفن بوجه عام أنه قطعة قماش “طولها 4.35 متر وعرضها 1.09 متر، وصُنعت من قطعة واحدة من قماش الكتان ماعدا شريحة عرضها 3.5 بوصة (أي نحو 9 سنتيمترات) بطول الجانب الأيسر للقماش ومتصلة به بخياطة يدوية بسيطة”.

وتشير دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن صورة الشخص: “تُظهر العديد من الجروح الصغيرة التي تغطي الجسد من الأمام والخلف، من الكتفين إلى الأسفل، وهي تتماشى مع رواية جَلد يسوع بواسطة الجنود الرومان تمهيداً لصلبه بحسب ما ورد في إنجيل (القديس متى 27:26 وما يتبعه)”، بحسب بي بي سي.

وتضيف: “بالنظر إلى العديد من أوجه التشابه بين رواية الإنجيل والأدلة الموجودة على الكفن، يتفق العلماء على أن هذا الكفن لا يمكن أن يكون سوى كفن دفن يسوع الفعلي أو تقليد متقن صُنع لاحقاً”.

خضع الكفن لدراسات علمية مكثفة، ما يزيد على 170 دراسة أكاديمية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، وخلُصت العديد من تلك الدراسات إلى أنه “كفن يسوع الحقيقي”، بينما خلُصت دراسات أخرى إلى إنه “كفن مزيّف”، وكان من أبرز تلك الدراسات المشككة دراسة باختبار الكربون-14 أُجريت في عام 1988، والتي أشارت إلى أن القماش يعود إلى العصور الوسطى، مما أثار تشكيكاً في أصالته، بيد أن دراسات لاحقة أكدت وجود آثار دماء وعناصر تتفق مع العصر الروماني، وزمن المسيح بالفعل، مما فتح باب الجدل العلمي من جديد.

أثار الكفن عدة تساؤلات رئيسية لم تُحسم، مما جعله أحد أكثر الآثار الدينية غموضاً، كان من أبرز تلك التساؤلات، هل يعود الكفن فعلاً إلى زمن المسيح؟ وهل يمكن أن تكون الدراسات العلمية، مثل اختبار الكربون-14، قد أعطت نتائج خطأ أو غير دقيقة بسبب التلوث أو عمليات الترميم التي خضع لها الكفن عبر العصور؟

وأيضاً هل تكوّنت الصورة على الكفن نتيجة تفاعل كيميائي طبيعي أم ظاهرة غير مفسّرة علمياً؟ وهل يحمل الكفن آثاراً حقيقية لصلب المسيح؟ وهل تطابق علامات الجروح والجَلد والثقوب الناتجة عن دق المسامير مع الطريقة التي صُلب بها المسيح كما رواه الإنجيل؟

الكفن المقدس

لم يتفق العلماء على بداية ظهور “الكفن المقدس” محل الدراسة، إذ لا توجد أدلة تاريخية مؤكدة على وجوده في القرون الأولى للمسيحية، بيد أن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنه كان محفوظاً في الكنيسة الأولى، ونُقل من أورشليم إلى أماكن مختلفة لحمايته.

ويلفت الفرنسي سيرج إم مورفييف في دراسته “كيفية تشكّل الصورة على كفن تورينو” إلى أن السجلات التاريخية “لا تثبت وجود كفن تورينو بشكل قاطع إلا منذ عام 1357، لكن هناك شواهد عديدة تدل على امتداد تاريخه إلى عصور أقدم بكثير”.

ويقول: “وردت إشارات إلى وجوده في مدينة الرُّها، المعروفة الآن بأورفة التركية، حتى عام 944، ثم في القسطنطينية، حيث ظل محفوظاً من عام 944 إلى 1204، عندما اجتاحت الحملة الصليبية المدينة”.

عُرض الكفن في أماكن عديدة إلى أن وصل كنيسة قصر شامبري، مقر أمراء السافوا، في 11 يونيو عام 1502، بعد أن اشتراه الدوق لويس دو سافوا من مرغريت دي شارني، حفيدة جوفروا دي شارني الأول، وهكذا استقر الكفن لفترة هناك.

وتشير دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن الكفن “نجا بأعجوبة من حريق خطير نشب في عام 1532. وعلى الرغم من أن التابوت الفضي (المحفوظ بداخله) جرى إنقاذه من الكنيسة المحترقة، إلا أن قطرة من الفضة المنصهرة احترقت وتسللت إلى طيات الكفن”.

وترصد دراسة “لغز كفن المسيح” مراحل انتقال وعرض الكفن إلى أن وصل إلى مدينة تورينو، إذ تقول إنه عندما انتقل ملوك السافوا من شامبري إلى تورينو عام 1578، اصطحبوا معهم “الكفن المقدس”، ومنذ ذلك الوقت عُرض على الجمهور في عدة مناسبات.

ظل “الكفن المقدس” ملكاً لأسرة السافوا منذ عام 1453 وحتى آخر ملوك هذه السلالة وهو أومبرتو الثاني، الذي توفي في عام 1983، ويقال إنه كتب في وصيته بنداً يقضي بالتنازل عن حقه في ملكية الكفن لبابا روما متمنياً بقاء الكفن في تورينو.

سعى العلماء، أثناء دراسة الكفن، إلى الربط بين الآثار التي وجدوها على النسيج وبين روايات الآلام الواردة في الكتاب المقدس، في محاولة لحل اللغز وتفسير العلامات الظاهرة أمامهم.

تحدث العلماء عن وجود آثار تشير إلى وجود نتف من منتصف اللحية، فضلا عن وجود علامات لرضوض وأورام ظاهرة على الوجه، وأهمها خد متورم أكثر من الثاني، وجفن متورم أكثر من الثاني، كذلك آثار رضوض في الأنف، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 67) “حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه وآخرون لطموه قائلين: تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟”، وأيضاً ما ورد في نبوءة سفر إشعياء النبي (50: 6) “بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق”.

وتحدثوا عن علامات تشير إلى عملية جَلد ظاهرة من الظهر حتى القدمين، وتمثّلها بقع دم داكنة اللون منتشرة على طول الجسم، وقالوا إن آثار الجَلد في صورة الكفن تتطابق مع وسيلة الجَلد الرومانية المعروفة وقتها، وهي عبارة عن مقبض ينتهي بثلاثة أطراف من الجِلد، وعلى كل طرف قطعة من عظام أرجل الغنم أو كرتان متلاصقتان من الرصاص، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 26) “حينئذ أطلق (الوالي بيلاطس البنطي) لهم باراباس، وأما يسوع فجَلده وأسلمه ليُصلب”.

ويرى البعض أن عقوبة الجَلد لا معنى لوجودها في ظل الحُكم على الشخص بالصلب في البداية، بيد أن وجود أثار تدل عليها قبل تنفيذ عقوبة الصلب يدل على أن هذا الشخص هو المسيح بالفعل، لأنه لم يُعرف تاريخياً جَلد شخص قبل صلبه سوى المسيح، بحسب ما ورد في رواية الإنجيل، إذ كان هدف الوالي بيلاطس البنطي من عقوبة الجَلد في البداية أن تكون تأديبية تمهيداً لإطلاق سراحه، لا لصلبه.

كما تحدث العلماء عن علامات تشير إلى جروح من جهة الرأس وبالأخص من الجهة الخلفية على طول الشعر، أرجعوها إلى حدوث نزيف بسبب غرز الشوك في الرأس، وقالوا إن هذا يتطابق مع الوضع على الصليب، لأن المصلوب عندما يتحرك على صليبه يلقي رأسه غالباً إلى الخلف، الأمر الذي يحدث ألماً ونزيفاً، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 29) “وضفّروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه”.

ويقول ملكي في دراسته: “إكليل الشوك لم يكن من العذابات التقليدية التي كان يتلقاها المصلوب، إذ لم يذكر التاريخ، أن أحداً من الذين صُلبوا وُضع على رأسه إكليل شوك. أما يسوع فقد جعلوا عليه إكليل الشوك .. ليسخروا منه”.

ولاحظ العلماء أيضاً وجود علامات على الكتفين أرجعوها إلى احتمال أن حِملاً ثقيلاً ربما كان يضغط عليهما، وربط العلماء هذا الحِمل بعادة حمل المحكوم عليه بالصلب لصليبه، في ذلك الوقت، من مقر المحكمة إلى موضع صلبه، الذي كان غالباً خارج أسوار المدينة.

ويقول العلماء إن المتهم كان يحمل القطعة الأفقية من الصليب فقط، نظراً لعدم قدرته على حمل الصليب بالكامل، لأن وزنه كان يتجاوز 200 كيلوغرام، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 31) “بعد ما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب”.

كما استنتج العلماء وجود علامات على دق مسامير في اليدين والرجلين تشير إلى عقوبة الصلب، لاسيما وأن طريقة الموت على الصليب لم تكن معروفة عند اليهود، الذين كانوا يعاقبون بالرجم فقط، أمام الرومان فكانوا يستعملونها مع الغرباء، ويقول ملكي في دراسته: “نظراً لشراسة تلك الطريقة، كان يُمنع تنفيذها في المواطنين الرومان”.

ولاحظوا أيضاً وجود علامات توحي بطعنة في الجنب الأيمن، ربما طعنة الحَربة التي كان يتيقن بها الرومان من موت الشخص بالفعل على الصليب، وهو ما اعتبره العلماء يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس يوحنا (19: 35-34) “لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحَربة وللوقت خرج دم وماء. والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم”.

كان العلماء الفرنسيون هم أول من اهتموا بدراسة الكفن، وتضاربت جهودهم بين مؤيد ومعارض، أبرزهم الراهب والمؤرخ أوليس شوفالييه (1841-1923) الذي قال إن الكفن من صنع أحد الرسّامين، بيد أن آخرين اعترضوا على هذا الزعم، لكن دراسات شوفالييه ساعدت في معرفة رحلة الكفن بطريقة أدق.

وعلى الرغم من عدم إصدار أي إعلان رسمي من الفاتيكان يدعم أو ينفي نتائج الدراسات التي أُجريت على الكفن، وصف البابا يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان السابق (1978-2005)، الكفن في يوم الأحد 24 مايو 1998، عندما زار تورينو لمشاهدة الكفن، بمناسبة مرور مئة عام على التقاط أول صورة له، قائلا، نقلاً عن النسخة الفرنسية المنشورة على موقع الفاتيكان: “ما يهم المؤمن في المقام الأول هو أن الكفن المقدس يُعد بمثابة مرآة تعكس جوهر الإنجيل”.

وأضاف: “الحقيقة أنه إذا كانت صورة المسيح قد انطبعت على هذا القماش المقدس، فلا يمكن التغاضي عن علاقتها العميقة بروايات الأناجيل حول آلامه وموته، الأمر الذي يلامس الوجدان ويثير مشاعر التأمل العميق لدى كل من ينظر إليه”.

ظل “الكفن المقدس” لغزاً أثار تساؤلات الكثيرين على مر العصور، وشجّع علماء على إجراء دراسات لم تتوقف حتى الآن، بل أصبح في جوهره رمزاً قوياً يدعو إلى التأمل في أحداث آلام المسيح، سواء أثبتت الدراسات العلمية حقيقته أم بقي سرّه في طيّ الغموض.

المصدر – اليوم ميديا