image

تعبيرية

علي عبد الرحمن (القاهرة)

في زمن تتسارع فيه الإيقاعات، وتتكثف فيه الشاشات، لم تعد اللغة العربية مجرد وسيلة للتواصل، بل أصبحت مرآة للهوية، وصدىً لنبض الأجيال الجديدة، ومسرحًا يوميًا تتقاطع فيه الفصحى مع الدارجة، وتتمازج فيه اللهجات من الخليج إلى المحيط، في لوحة لغوية مدهشة… ومربكة.

على منصات التواصل الاجتماعي، لا تُكتب الحروف فقط، بل تُكتب التحولات الثقافية. وهنا، ينهض السؤال الأهم: هل نحن نشهد أفول الفصحى أمام المدّ العامي، أم أننا أمام ولادة خطاب لغوي جديد يعيد تشكيل “اللسان العربي” في صورة أكثر تنوعًا ومرونة؟

سحر الدارجة وهيبة الفصحى: من يربح المشهد؟

لم يعد رصد اللغة العربية أمرًا نظريًا أو أكاديميًا، بل بات ممكنًا في كل تمريرة شاشة، وفي كل تعليق أو “ستورى”. تراجعت الفصحى -لغة الخطابة والقرآن والشعر- لتفسح المجال أمام عاميات جريئة، تُكتب بحروف عربية تارة، ولاتينية تارة أخرى، وتدخلها الإنجليزية دون مقدمات.

بات من الطبيعي أن تصادف منشورات تقول: “ماكو شي ترى”، أو “إزايك يا مان؟”، أو “أنا literally تعبان من الشغل”، كلمات تمثل حالة هجينة، لا هي بالفصحى ولا بالعامية الخالصة، وإنما لغة جديدة تنمو من قلب العالم الرقمي.

لكن رغم انحسار الفصحى، لم تختفِ، بل بدت وكأنها تعيد التفاوض على حضورها، متكيفةً مع أدوات العصر، ومتحولةً من لسان تقليدي إلى خطاب وسطي قادر على الجمع بين الرصانة والمرونة.

بين الدحيح ونورة بوحمد وألفباء: تعددية اللسان في الفضاء الرقمي

رصد فريق “اليوم ميديا” نماذج من أبرز المؤثرين في العالم الرقمي العربي، فظهر المشهد أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما يبدو:

  • أحمد الغندور (الدحيح): يقدم نموذجًا استثنائيًا للغة وسطى، تجمع بين فصحى ميسرة ومصطلحات شبابية، في تجربة جعلت من اللغة جسرًا بين الأجيال، وأثبتت أن الفصحى لا تزال قادرة على الحياة إن تم حقنها بالحيوية وخفة الظل.
  • نورة بوحمد (الكويت): اعتمدت على لهجتها الخليجية دون اعتذار، فجاء محتواها محليًا بامتياز، دافئًا، صادقًا، لكنه محدود الانتشار خارج نطاق من يتقنون تلك اللهجة.
  • منصة ألفباء: ذهبت إلى الفصحى العالية الرصينة، فصاغت خطابًا معرفيًا دقيقًا، لكنه في نظر كثيرين بدا مغلقًا، وربما مرهقًا لجمهور يبحث عن المعرفة بلغة سهلة الهضم.

هكذا يتضح أن اختيار اللسان ليس مجرد قرار لغوي، بل هو موقف ثقافي ورسالة ضمنية حول الجمهور المستهدف والانتماء والهُوية.

اللهجات: خطر أم غنى؟ الجمهور يجيب

في استطلاع للرأي أجراه “اليوم ميديا” على عينة من 750 مستخدمًا عربيًا، تباينت الآراء بشكل لافت:

  • 34% اعتبروا استخدام العامية المكتوبة تهديدًا مباشرًا للفصحى ومكانتها التاريخية.
  • 49% رأوا في صعود اللهجات إثراءً ثقافيًا وتعبيرًا صادقًا عن الهوية المحلية.
  • 17% أبدوا حيادًا أو لا مبالاة، مما يكشف فتورًا واضحًا تجاه قضايا اللغة لدى شريحة معتبرة من الجيل الرقمي.

نحو “لغة ثالثة”: هجينة، سائلة، بلا قواعد

اللافت في المشهد ليس فقط تقابل الفصحى والعامية، بل ولادة ما يمكن تسميته بـ”اللغة الثالثة” — لغة هجينة تستقي من الفصحى رصانتها، ومن العامية حرارتها، ومن الإنجليزية مرونتها، لتكوّن خطابًا عصريًا، متحررًا من القواعد والقيود، لكنه يفتقر أحيانًا إلى العمق والدقة.

هذه “اللغة السائلة” تبدو ملائمة لروح العصر، لكنها تثير أسئلة عن المستقبل: هل نحن نشهد تآكلًا بطيئًا للفصحى؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تأقلمًا مؤقتًا مع وسيط تواصلي سريع ومتغير؟

أي مستقبل ينتظر لساننا العربي؟

لسنا أمام مشهد لغوي بسيط يمكن تصنيفه بـ”الخطر أو النعمة”. بل أمام تحوّل ثقافيعميق، يعكس تغير الذوق العام، وانزياح مراكز القوة الرمزية، ومرونة اللغة العربية ذاتها في مواجهة الحداثة الرقمية.

د لا تُهدد اللهجات الفصحى بشكل مباشر، لكن الخطر يكمن في الغفلة عنها، في تركها دون تجديد، ودون مشاريع إعلامية وتعليمية تُعيد دمجها في وجدان الأجيال. فاللغة، كما قال ابن خلدون، هي وعاء الفكر، ومن يفرّط في لغته، يفرّط تدريجيًا في تصوره للعالم.

وهكذا، تبقى الفصحى، رغم كل شيء، في صراع هادئ… لا من أجل البقاء فقط، بل من أجل المعنى.