محمد جلال هاشم.. الثقافة بديلاً للأيديولوجيا في فهم السودان

يلاحظ المتابع للمشهد الفكري في السودان أن أغلب الكتابات إمّا تتسم بالخطاب السياسي المباشر أو تنحصر في بحوث أكاديمية منفصلة عن واقع المجتمع. لكن كتاب محمد جلال هاشم يأتي مختلفاً، إذ يجمع بين الضبط النظري والتحليل المرتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي.

يركّز الكاتب على التمييز الجوهري بين الثقافة والأيديولوجيا:

  • الثقافة أداة لفهم الواقع وحماية المجتمع وضمان تماسكه.
  • الأيديولوجيا أوهام ومغالطات حول الذات والآخرين تؤدي إلى الانقسام والتهميش.

بهذا التصور يصبح التحليل الثقافي أداة لإدارة التنوع ومعالجة الصراعات، بعيداً عن النزعات الأحادية التي اختزلت الوعي السوداني في الاقتصاد أو الدين أو العرق.

الثقافة كمنهج لفهم الواقع

بعكس التصورات الغربية التي غالباً ما تنظر لثقافات الجنوب كمجرد “موضوعات للمعرفة”، يقدّم هاشم الثقافة كـ منهج لفهم الواقع الاجتماعي وتحويله.

  • الثقافة ليست موضوع دراسة خارجي كما في الأنثروبولوجيا الاستعمارية.
  • بل هي وسيلة المجتمع لفهم نفسه وتجاوز الصدوع الأيديولوجية التي تهدده.

هذا المنهج يضع الفكر الغربي في حدوده التاريخية والثقافية، لكنه لا يلغيه، بل يستفيد منه في ضوء التجربة الإنسانية المشتركة.

من نقد المركزية الغربية إلى تفكير الجنوب العالمي

يلتقي فكر هاشم مع تيارات تفكير الجنوب العالمي (Global South Thinking) التي تسعى إلى تحقيق العدالة المعرفية عبر مساواة كل المجتمعات في حق إنتاج المعرفة.

  • هنا تصبح الثقافة مجالاً للتضامن لا للتمييز.
  • ويصبح العلم نفسه قابلاً للمساءلة من حيث ارتباطه بالثقافة أو الأيديولوجيا.

ارتباط التجربة السودانية بسياقها التاريخي

منذ السبعينيات، بدأت تتشكل في السودان مساهمات فكرية ناقدة للهيمنة والتهميش.

  • أشار عبد الله بولا إلى خطورة “الإنسان الممتاز” الذي ينفصل عن مجتمعه.
  • بينما أعاد محمد جلال هاشم الاعتبار للثقافة كشرط أساسي لفهم الواقع والتغيير.

جهوده التي انطلقت منذ منتصف الثمانينيات أثرت في جيل كامل من طلاب الجامعات، خصوصاً في مواجهة إشكالية التعدد الثقافي والإثني في السودان وإفريقيا.

مقدّمة المؤلف: رحلة المخطوطة المفقودة

يحكي محمد جلال هاشم قصة هذا الكتاب التي بدأت عام 1993م، حين كتب فصوله الأولى أثناء دراسته في إنكلترا. لكن ضياع بعض الفصول وتأثير ظروف الحرب في السودان جعلا الكتاب يخرج متأخراً.

  • عثر الكاتب لاحقاً على الفصل الأول بعد سنوات من الفقدان.
  • وأعاد صياغة الفصل الثاني بالاستناد إلى كتاباته اللاحقة.

رغم قِدم بعض المراجع، يؤكد المؤلف أن موضوعاتها تظل صالحة للنقاش لأنها تعالج قضايا متجذرة في تاريخ الفكر.

القيمة الفكرية والجدل الممكن

الكتاب بلا شك سيثير جدلاً، لكنه جدل مثمر، لأنه:

  • يضع الثقافة في مواجهة الأيديولوجيا.
  • يقدّم أدوات عملية لإدارة الاختلاف بعيداً عن العنف والتعصب.
  • يعيد الاعتبار لوعي المجتمعات المحلية بوصفه أساساً لأي مشروع نهضوي.

خلاصة

يمثل كتاب محمد جلال هاشم مساهمة فريدة في الفكر السوداني والإفريقي، لأنه لا يكتفي بنقد المركزية الغربية، بل يقدّم بديلاً عملياً عبر التحليل الثقافي. وهو فكر يربط النظرية بالفعل السياسي والاجتماعي، ليخاطب قضايا السودان المعاصر: التعدد، الهوية، الدولة، وإمكان بناء تضامن مجتمعي جديد.

لندن – اليوم ميديا

زر الذهاب إلى الأعلى