image

دونالد ترامب

لندن – مريم عيسى

في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم لاستثمار كل دولار إضافي في المعرفة والتكنولوجيا، تسير الولايات المتحدة ـ وعلى نحوٍ مقلق ـ في الاتجاه المعاكس. إذ يواجه البحث العلمي الأميركي تهديدًا غير مسبوق، مع قرارات متصاعدة لخفض التمويل عن أبرز المؤسسات البحثية الوطنية، في مشهد يرى فيه الخبراء “كارثة صامتة” قد تكلف الاقتصاد الأميركي ما لا يقل عن 16 مليار دولار، وتُفقده أكثر من 68 ألف وظيفة.

رصيف الانحدار.. من الريادة إلى التراجع

منذ لحظة الإعلان عن خطط تقليص ميزانيات البحث العلمي، دق كثير من الخبراء ناقوس الخطر، محذرين من أن الولايات المتحدة ـ التي لطالما تصدرت مشهد الاكتشاف والابتكار ـ بدأت تتراجع عن هذا الدور التاريخي. فبينما كان الإنفاق على البحث والتطوير يمثل 1.9% من الناتج المحلي عام 1964، انخفضت هذه النسبة بشكل متسارع إلى 0.7% بحلول عام 2021، لتتراجع أمريكا إلى المرتبة الثانية عشرة عالميًا خلف دول مثل كوريا الجنوبية وسويسرا.

النتيجة؟ مجتمع علمي متعثر، ومؤسسات أبحاث تواجه مصير التهميش، بينما تتأهب اقتصادات أخرى لملء الفراغ الأمريكي في ميادين الابتكار.

ضربة للمعاهد العلمية.. وارتباك اقتصادي متوقع

تقترح الإدارة الأمريكية، وفق مسودة الموازنة لعام 2026، تخفيضات حادة تشمل:

  • المعاهد الوطنية للصحة (NIH): خفض بـ18 مليار دولار، أي نحو 37% من ميزانيتها، ما قد يؤدي إلى توقف مئات المشاريع الطبية الحيوية، وسط قلق من تداعيات على الصحة العامة.
  • مؤسسة العلوم الوطنية (NSF): خفض ميزانية بـ5 مليارات دولار، ما يعني تحجيم الدور المحوري للمؤسسة في دعم الجامعات وبرامج الطلاب.
  • وزارة الطاقة (DOE): تقليص تمويل مكتب العلوم بنسبة 14%، ما يهدد أبحاث الفيزياء والطاقة النظيفة.
  • ناسا: خفض بـ6 مليارات دولار، منها نصف تمويل علوم الأرض، ما قد يعوق مشاريع تتعلق بتغير المناخ واستكشاف الفضاء.
  • الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA): خفض بنسبة 24%، ما سيؤثر على الأبحاث المتعلقة بالمناخ والكوارث الطبيعية.
  • هيئة المسح الجيولوجي (USGS): اقتطاع أكثر من ثلث ميزانيتها، ما يعوق مشاريع تتعلق بالموارد الطبيعية.
  • وزارة الزراعة (USDA): خفض بـ5 مليارات دولار، يؤثر على الأمن الغذائي والأبحاث الزراعية.

من يمول المستقبل؟

يقول الاقتصاديون إن كل دولار يُستثمر في البحث العلمي يولّد عائدًا اقتصاديًا يتراوح بين 1.4 إلى 2.1 دولار. فتمويل العلوم ليس رفاهية، بل هو مضاعف استثماري للابتكار، وفرص العمل، والنمو.

منذ الحرب العالمية الثانية، ساهمت الحكومة الفيدرالية بنحو 20% من إنتاجية الاقتصاد الأمريكي عبر استثمارها المباشر في الأبحاث، فكيف سيكون شكل الاقتصاد دون هذا الاستثمار؟

بين الأمن والاقتصاد.. أولويات مقلوبة

تُظهر موازنة 2026 أن الأولوية أصبحت واضحة: الدفاع أولًا، إذ تقترح الإدارة زيادات كبيرة في الإنفاق العسكري والأمن الداخلي، مقابل تقليصات تمس مستقبل العلوم والبيئة والتكنولوجيا.

يصف أحد المحللين الوضع بأنه “انتحار بطيء لاقتصاد المعرفة”، متسائلًا: “ما فائدة الصواريخ إن كنا نخسر الأدمغة؟”.

استنتاج: هجوم صامت على المستقبل

ما يجري ليس مجرد تعديل مالي، بل إعادة تعريف لمستقبل الولايات المتحدة كقوة علمية واقتصادية. وبينما يلوح الكونغرس بخفضات حادة، يقف العلماء والباحثون في مواجهة مستقبل غامض.

إن محاربة المؤسسات العلمية هو ـ في جوهره ـ محاربة لمستقبل أمريكا التنافسي، العلمي، والصناعي. فهل يُدرك صناع القرار أن تقليص ميزانيات اليوم قد يكون تقليصًا لفرص الغد؟