العثمانية الجديدة في أفريقيا: ماذا تريد تركيا من القارة السمراء؟ تحليل شامل

يثير التوسع التركي في العلاقات مع أفريقيا الكثير من التساؤلات حول دوافع أنقرة وراء هذا التدخل المتزايد في النزاعات والقضايا الأفريقية. هل الهدف تجاري بحت، أم أن هناك نزعة لدى الرئيس رجب طيب أردوغان لإحياء النفوذ العثماني القديم في ظل الاضطرابات السياسية والتحولات الجيوسياسية العالمية؟

حملة تركيا في أفريقيا: بين الطموحات والواقع

مع انسحاب القوى الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا من أفريقيا، تتقدم تركيا بخطى ثابتة في مشاريعها الإنسانية، والتواجد العسكري المتزايد، وتصعيد صادرات الأسلحة. غير أن طموحات أنقرة تبقى مقيدة بالتوازنات السياسية المعقدة والنتائج غير المؤكدة على الأرض.

الصومال: بوابة الخليج إلى أفريقيا

بدأت مشاركة تركيا الحديثة في أفريقيا بحضور حاسم في الصومال عام 2011، عندما اجتاحت المجاعة القرن الأفريقي وسيطر تنظيم الشباب المتطرف على جنوب البلاد. انسحبت معظم القوى الغربية، تاركة فراغًا أمنيًا وإنسانيًا هائلًا.

في خطوة غير مسبوقة، قام أردوغان بزيارة مقديشو، مقدماً مساعدات إنسانية تجاوزت 200 مليون دولار، وأعاد فتح السفارة التركية هناك، وأطلق رحلات الخطوط الجوية التركية التي استأنفت الخدمة لأول مرة منذ عشرين عامًا. على عكس الغرب، توزعت المساعدات التركية مباشرة لتجنب الفساد وتعزيز الثقة، بالإضافة إلى نشاط الجمعيات الخيرية والاستثمار في البنية التحتية مثل المستشفيات والموانئ.

وفي 2017، افتتحت تركيا أول قاعدة عسكرية خارج أراضيها في الصومال “تركوم”، حيث تم تدريب آلاف الجنود الصوماليين. وفي 2024، وقعت أنقرة اتفاقية دفاع بحري مع مقديشو، تشمل تدريب وتجهيز القوات البحرية، وإجراء دوريات مشتركة لحماية المياه الإقليمية من القرصنة والتعديات.

كما دخلت شركة النفط التركية “تباو” في اتفاقية استكشاف بحري مع الصومال، ما يفتح آفاقًا اقتصادية واعدة رغم التحديات الأمنية الكبيرة.

ليبيا: طموحات بحرية في وسط صراعات سياسية

عادت العلاقات التركية الليبية لتنتعش بعد تدخل أنقرة لدعم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، عبر نشر طائرات مسيرة وقوات من المرتزقة السوريين لكسر حصار العاصمة.

تمكنت تركيا من الحفاظ على وجود عسكري يُقدر بنحو 3000 جندي، ودعمت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية لعام 2019 التي تعكس “عقيدة الوطن الأزرق” التركية، التي تسعى لتأكيد السيطرة على مياه شرق البحر المتوسط رغم الاعتراضات من اليونان وقبرص ومصر.

التحركات التركية في ليبيا تمثل جزءًا من استراتيجيتها لتعزيز النفوذ البحري والاقتصادي في منطقة البحر المتوسط، وسط توترات جيوسياسية متصاعدة.

السودان: محور التوازنات العسكرية والسياسية

شهد السودان صراعًا داخليًا عام 2023 بين قوات الدعم السريع المدعومة من الإمارات والقوات المسلحة المدعومة من مصر والسعودية. رغم بيع تركيا أسلحة للطرفين، إلا أنها اتجهت لتقوية القوات المسلحة السودانية بدعم طائرات “بِراقدار” التركية بدون طيار.

التعاون العسكري بين أنقرة والخرطوم توسع ليشمل تدريبات وتنسيقًا عسكريًا عبر معسكر “تركوم”، كما زار زعيم الجيش السوداني تركيا، مما يعزز النفوذ التركي في البحر الأحمر والمنطقة.

غرب أفريقيا: شركاء حذرون في لعبة نفوذ كبرى

تركيا تسعى لتعزيز وجودها في دول الساحل بغرب أفريقيا مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، بعد خروج القوات الفرنسية والأمريكية، وتزايد حركات التمرد. وتتناغم أنقرة مع روسيا كشريك أمني في المنطقة، لكنها ما زالت تقدم دعما محدودا يشمل الأسلحة الخفيفة والتدريب.

رغم الزيادة الملحوظة في حجم التجارة والتعاون الأمني، تواجه تركيا تحديات كبيرة في مواجهة تنظيمات القاعدة والدولة الإسلامية، ونجاح المرتزقة السوريين الذين تم نقلهم عبر عقود تركية في محاربة متشددي المنطقة لا يزال محدودًا.

ماذا تريد تركيا من أفريقيا؟

تركيا ترى في أفريقيا سوقًا استراتيجية تتراوح بين الوصول إلى موارد طبيعية مهمة كالذهب واليورانيوم، وتعزيز نفوذها السياسي والعسكري، بل وربط مصالحها كعضو في الناتو بالمصالح الغربية عبر القارة الأفريقية، التي تشهد تحولات كبرى نحو تقليل نفوذ القوى الاستعمارية القديمة.

الخلاصة

بين طموحات إحياء النفوذ العثماني القديم والرغبة في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، تخوض تركيا في أفريقيا حربًا على عدة جبهات: إنسانية، عسكرية، وتجارية.

ورغم نجاحاتها في بعض الملفات كالصومال وليبيا، إلا أن الواقع السياسي الميداني المعقد يشكل حدودًا واضحة أمام طموحات أنقرة، التي تبقى مرهونة بتوازنات داخلية وإقليمية متغيرة.

لندن – اليوم ميديا

زر الذهاب إلى الأعلى