image

من مهرجان كان - (CNN)

✍️ علي عبد الرحمن (القاهرة)

منذ تأسيس مهرجان “كان”، ظلّت الكاميرا أداةً في يد النخبة، ولعقود، كانت المرأة حاضرة فيه كجسد على الشاشة أكثر منها كصوت خلفها. لكن نسخة 2025 لم تكن مجرّد دورة جديدة من تاريخ طويل، بل لحظة مفصلية تعكس تحوّلاً عميقاً في مَن يروي الحكاية، وكيف تُروى، ولماذا.

ما حدث في هذا العام يتجاوز الأرقام القياسية التي سجّلتها المخرجات (تسع نساء في المسابقة الرسمية)، نحو ملامح تغيير بنيوي في طبيعة السرد، وفي اللغة البصرية ذاتها. لم يعد الصوت النسوي مجرد “مشاركة”، بل تيار يعيد تعريف مركز الصناعة، عبر سرديات تتجاوز التمثيل السياسي إلى إعادة تشكيل نظرتنا إلى الإنسان والزمن والهوية.

◀️ من التفرّد إلى التيار

حين وقفت آغنيس فاردا وحدها في مهرجان “كان” عام 1962، لم تكن تطالب بحقها في الحضور، بل كانت تمارسه، بكاميرا تصنع لغة خارج القوالب. واليوم، لم يعد هذا التفرّد استثناء، بل تحوّل إلى تيار تؤسّسه عشرات الأصوات النسائية حول العالم، بجرأة التجريب وعمق الرؤية، وبتحرر من هيمنة الذوق الذكوري الذي سيطر طويلاً على أشكال السرد وتمثيل الجسد.

◀️ سرديات جديدة، وجمهور جديد

ما ميّز الأعمال النسوية في مهرجان هذا العام ليس فقط تنوّعها الجغرافي أو الجمالي، بل اشتغالها على موضوعات منسية، أو مهمّشة، بلغة تعيد الاعتبار للذات، والذاكرة، والهشاشة. من الفيلم السعودي الصمت الأبيض إلى الحديقة الخلفية الفرنسية ورمل العرين القطرية، تظهر مخرجات يتعاملن مع السينما ليس كمنبر، بل كفعل ثقافي يعيد تأويل الواقع، لا عرضه فقط.

وهذا التغيير لم يكن ليحدث دون ثلاثة تحوّلات كبرى:

  • تقنيًا: وفّرت أدوات الإنتاج الرخيصة فرصًا لأصوات مستقلة أن تُرى وتُسمع.
  • سوقيًا: لم تعد قاعات العرض مركز التلقي، بل أفسحت المنصات الرقمية المجال أمام التنوع والتجريب.
  • ثقافيًا: بات جمهور جديد، شاب، عالمي، يطلب حكايات بديلة، ويقبل سرديات تنبع من الذات لا من السلطة.

◀️ من الخليج إلى “كان”: حضور لم يعد رمزيًا

من أبرز ملامح هذه الدورة، الحضور النوعي للسينما النسوية العربية، خاصة الخليجية، التي انتقلت من التمثيل الرمزي إلى المنافسة الجدية. أفلام مثل ظلّ النخيل والصمت الأبيض تعكس جرأة في الطرح، ووعيًا جماليًا يمزج الحسّي بالفكري. لم تعد المرأة العربية تطالب بـ”المكان”، بل تصنعه، وتعيد رسمه بلغة قادمة من الهامش، ولكنها أكثر تعبيرًا عن المركز من المركز نفسه.

◀️ إعادة بناء النظرة: الكاميرا كأداة مقاومة

ما تفعله السينما النسوية المعاصرة يتجاوز طرح قضايا المرأة، إلى تفكيك بنية السينما ذاتها. فالمخرجات اليوم لا يُعدن النظر فقط في ما يُروى، بل في كيفيّة السرد، وفي العلاقات بين الزمن والصوت، بين الجسد والكاميرا، بين الخاص والعام.

هذه السينما لا تبحث عن “تمثيل” سطحي، بل تسعى إلى بناء حسّ جمالي بديل، يمارس مقاومة ناعمة ومستمرة، ويفتح أفقًا جديدًا لفهم العالم.

◀️ زمن المرأة ليس قادمًا… إنه هنا

ما أثبتته دورة “كان” 2025 هو أن زمن المرأة خلف الكاميرا لم يعد “وعدًا” أو “حلمًا”، بل حقيقة تفرض حضورها بلغة جديدة، وسرديات تعيد ترتيب الذاكرة البصرية الجماعية.

هي لحظة فارقة لا في تاريخ المهرجان فقط، بل في بنية الوعي السينمائي العالمي، حيث تكتب النساء—بصورة، ولقطة، وصمت—ما يشبه بيانًا جديدًا للسينما: أن تكون حرّة، ذاتية، متعددة، وبلا مركز واحد.

فالتي تمسك بالكاميرا، باتت تمسك أيضًا بمصير الحكاية… وربما بمستقبل النظرة إلى العالم.