image

أرشيفية

علي عبد الرحمن (القاهرة)

في عالم تتزاحم فيه الصيغ السينمائية التقليدية، تبرز تجربة فريدة تُعرف بـ”السينما الشعرية”، حيث تنقلب الكاميرا من أداة تسجيل إلى قلم يرسم القصيدة بالصورة، واللقطة تتحول إلى بيتٍ شعري نابض بالمعنى.

هذه السينما لا تُروى فيها القصص بالطريقة المعتادة، بل تُعاش، إذ تُحاك ببطء، صمت، وتأملات فلسفية تتسلل إلى وجدان المتلقي. إنها ليست فقط سردًا، بل حالة شعورية عميقة، حيث تتحول اللحظة إلى تأمل، والصورة إلى معنى، والزمن إلى حالة وجودية.

من الكلمة إلى الصورة.. ولادة السينما الشعرية

تختلف السينما الشعرية جذريًا عن السينما التقليدية، فهي ترفض البناء الدرامي الواضح وتفضل الإيقاع الداخلي، حيث تُمنح الصورة سلطة المعنى، ويصبح الصمت أبلغ من الحوار. وكأن الفيلم نفسه يُقرأ كما يُقرأ ديوان شعر، لكنه يُحس ويُعاش في آن.

تاركوفسكي.. الزمن كصلاة

في أفلام الروسي أندريه تاركوفسكي، لا تعبر الكاميرا عن مشهد، بل تصنع زمنًا خاصًا يتدفق من الذاكرة إلى الحلم. فيلمه “المرآة” مثلًا، يقدم الزمن ككيان روحي، يتقاطع فيه الماضي بالحاضر، وتغدو كل لقطة صلاة بصرية على مذبح الوجود.

تيرينس مالك.. دهشة الخلق

أما الأميركي تيرينس مالك، فيصوغ في “شجرة الحياة” تأملًا كونيًا، حيث يتداخل الوجود البشري مع عظمة الكون. الكاميرا هنا لا تنقل الواقع، بل تصلي للكون وتبحث عن الله في الضوء، في الشجرة، وفي نظرات الأطفال.

أنطونيوني.. العدم كفلسفة

الإيطالي ميكيلانجيلو أنطونيوني يصور الفراغ لا كمجرد مساحة، بل كحالة وجودية. في أفلامه، مثل “وقائع حكاية حب”، يتحول الصمت إلى سؤال وجودي، والغربة إلى مشهد يمتد بلا نهاية. فلسفة العبث تتجسد في كل لقطة جامدة، وكل حوار ناقص.

يوسف شاهين.. الذاكرة كحقيقة عليا

المصري يوسف شاهين يجعل من المكان أيقونة متقدة بالمعنى، كما في “المهاجر”، حيث يتحول الموقع إلى حامل للهوية والصراع، والذاكرة إلى معبد تُستحضر فيه التجربة الإنسانية بين الماضي والحاضر. كاميراه تأملية، حادة، لكنها شاعرية حتى النخاع.

تيرنس ديفيز.. كتابة الذات بالصورة

الإنجليزي تيرنس ديفيز ينسج أفلامه من خيوط الذكرى، كما في “أغنية الغروب”، حيث تُكتب الروح بصريًا، وتتداخل الأزمنة لتصنع نصًا شعريًا متدفقًا، يعيد تركيب الذات من الداخل، تمامًا كما تفعل القصائد الصوفية.


السينما الشعرية ليست مجرد مدرسة فنية، بل فلسفة حياة، ينطق فيها المخرج لا من خلال الكلمات، بل بالصمت، الضوء، وحركة الكاميرا. يقول الناقد حسين الجندي: “هؤلاء المخرجون لا يصنعون أفلامًا بل تجارب وجودية، الكاميرا في أيديهم ليست آلة، بل قلم يكتب على جسد الزمن”.