image

لم تعد الحارة ذلك الملاذ الدافئ

علي عبد الرحمن (لندن)

عبر أزقة الحارات الشعبية، ينبض قلب المجتمع العربي في صور درامية تتجاوز مجرد عرض الحياة اليومية. الحارة هنا ليست مجرد مكان، بل مساحة سردية كثيفة تنسج حكايا الانتماء، الصراع، والذاكرة الجمعية.

فمن خلال مسلسلات خالدة مثل ليالي الحلمية وباب الحارة، لم تكن الحارات مجرّد مواقع جغرافية، بل كانت ميدانًا حيًّا تحيا فيه قيم الجيرة والتكافل، وتعكس نبض المجتمع وروحه الإنسانية.

لكن، ومع تصاعد التحولات الاجتماعية والسياسية، لم تعد الحارة ذلك الملاذ الدافئ؛ بل تحوّلت تدريجيًا إلى مرآة تعكس هشاشة الهوية، انقسامات المجتمع، وتصاعد القلق الوجودي. كيف رصدت الدراما هذا التحول؟ وكيف تحوّل الحي الشعبي من رمز للتماسك إلى مشهد للتشظي؟

أولًا: الحارة الشعبية.. النبض القديم للمجتمع

في بدايات الدراما العربية، جسّدت الحارات الشعبية وحدات اجتماعية متماسكة، تغلّفها التقاليد والأعراف، ويقودها شيخ الحارة أو وجهاؤها. كانت الحياة تسير وفق نظم صارمة، لكنها تعبّر عن الاستقرار والاحترام.

  • في مصر، رسمت أعمال مثل ليالي الحلمية والوتد ملامح أحياء تسكنها البساطة والكرامة، حيث تُبنى العلاقات على التضامن والتكافل.
  • أما الدراما الشامية، فوثّقت الحارات الدمشقية بأصالتها المعمارية والاجتماعية في أعمال مثل أيام شامية والخوالي.
  • وفي الخليج، شكّلت مسلسلات مثل درب الزلق وفايز التوش توثيقًا فكاهيًا وإنسانيًا لتحوّلات الحارات الخليجية قبل الطفرة النفطية.

الحارة كانت بوتقة للهوية، وفضاءً للتفاعل الإنساني الذي يطغى فيه المشترك الاجتماعي على الخصوصيات الفردية.

ثانيًا: من التماسك إلى الانقسام.. تحولات درامية كاشفة

تدريجيًا، بدأت صورة الحارة في الدراما العربية تتغير. ومع توغّل الأزمات الاقتصادية، والحروب، وصعود الفردانية، باتت الحارات فضاءات مشحونة بالصراعات.

  • في سوريا، تحوّل باب الحارة من ملحمة بطولية إلى سلسلة مشوّهة تفتقر إلى العمق، تعكس صراعات ساذجة، وتعيد تدوير شخوص فقدوا بوصلة الحكاية.
  • في مصر، عكست أعمال مثل عائلة الحاج متولي وسوق العصر التحولات الطبقية، والتوترات بين النفوذ والضعف، وبين الثراء الفاحش والتهميش.
  • أما في الخليج، فقد جسدت مسلسلات مثل الحيالة وخارطة أم راكان التبدلات القيمية في ظل الثراء المفاجئ والنمط الاستهلاكي الجديد.

أصبحت الحارة هنا، بدل أن تكون رمزًا للجمع، ساحة للفردانية والأنانية، تتخلخل فيها الروابط الاجتماعية، وتغيب فيها مرجعية الجماعة.

ثالثًا: بين الحنين والواقع المعاش

في العديد من المسلسلات الحديثة، تلعب الحارة دورًا مزدوجًا: فهي من جهة تعبير عن حنين إلى ماضٍ مثالي لم يعد موجودًا، ومن جهة أخرى تعكس واقعًا معقّدًا يعج بالصراعات والتناقضات.

  • في ولادة من الخاصرة، نُقلت الحارة من كونها مسرحًا للبطولة والرجولة، إلى فضاء مأزوم يخضع للسلطة، يعاني القهر والرقابة، ويغيب فيه الأمل.
  • الخليج بدوره، يستعرض في أعماله الصراع بين الأصالة والحداثة، حيث تتبدّل القيم أمام سطوة المال وسرعة التحولات.

لم تعد الحارة مظلة للانتماء، بل أضحت مساحة للتشظي، تعكس الغربة داخل الأوطان، وفقدان المعنى في زمن الاغتراب الاجتماعي.

رابعًا: الحارة من منظور صنّاع الدراما

يقول المخرج محمد فاضل إن الحارة الشعبية ليست مجرد ديكور درامي، بل هي كيان سردي حي يعكس ديناميات المجتمع وتحولاته.

“الحارة تختزل المجتمع كله، فيها تظهر التناقضات، تتجلى القيم، وتُختبر الهويات،” يقول فاضل، مضيفًا أن “الدراما الحقيقية تبدأ من هذه الأزقة، حيث نكتشف نحن من نكون، وإلى أين نمضي.”

الحارة ليست موقعًا مكانيًا فقط، بل رمز سردي/ثقافي يُفكّك بنية المجتمع، ويعيد تشكيل الأسئلة الكبرى حول العائلة، الجماعة، والانتماء.

خاتمة: مرآة الذات الجماعية

الحارة الشعبية، كما جسدتها الدراما، بدأت كأيقونة للتماسك والقيم الأصيلة، وانتهت لتصبح مساحة مفتوحة على كل التناقضات. إنها مرآة الذات الجماعية العربية: بين ماضٍ حنيني مشرق، وحاضر مرتبك يبحث عن ذاته في أزقة لم تعد تحفظ أسرارها.