
الأنهار الجليدية في القارة القطبية الجنوبية - غيتي
رامي صلاح – (لندن)
بينما تذوب الثلوج في القطب الشمالي، يشتعل الجليد سياسيًا؛ إذ تتحول هذه المساحة البكر من الأرض إلى ميدان جديد لصراع القوى الكبرى. ما كان يومًا رمزًا للصقيع الأبدي، صار اليوم مرجلًا يغلي بالتنافس الجيوسياسي، مدفوعًا بثروات طبيعية هائلة وممرات بحرية واعدة أعادها ذوبان الجليد إلى الحياة.
إنه الوجه الآخر للاحتباس الحراري؛ من أزمة بيئية إلى فرصة جيوسياسية، تستغلها قوى مثل روسيا، الصين، وأميركا، في سباق محموم للسيطرة، بينما يقف العالم أمام سؤال حاسم: هل يكون المستقبل القطبي تعاونًا دوليًا أم صراعًا باردًا جديدًا؟
موارد وثروات تعيد رسم الخريطة
تكشف المساحات الجديدة التي حررها ذوبان الجليد عن كنوز طبيعية هائلة. تُقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن القطب الشمالي يختزن نحو 13% من احتياطيات النفط غير المكتشفة عالميًا، و30% من الغاز الطبيعي، فضلًا عن معادن نادرة كالنيكل، الكوبالت، البلاتين، وحتى الألماس. هذه الثروات تُغري الدول الكبرى، التي سارعت بتقديم مطالبات للسيادة على “الجرف القاري” الغني.
إضافة إلى ذلك، ظهرت ممرات بحرية جديدة اختصرت المسافات مقارنة بقناة السويس والمضائق التقليدية، ما يجعل هذه الطرق مطمعًا للهيمنة التجارية والعسكرية، خصوصًا في ظل ازدياد أهمية التجارة البحرية في الاقتصاد العالمي.
روسيا والصين.. بداية اصطفاف جديد
روسيا تبدو الأكثر استعدادًا، فهي تمتلك أكبر أسطول كاسحات جليد نووية، وتبني قواعد عسكرية وموانئ عملاقة في سيبيريا والقطب، وتعتمد على مشاريع طاقة ضخمة في منطقة “يامال” لتأكيد نفوذها.
أما الصين، فقد أعلنت نفسها “دولة شبه قطبية”، رغم غياب الحدود الجغرافية المباشرة، واستثمرت بقوة في الأبحاث العلمية والموانئ والبنية التحتية القطبية، في إطار استراتيجيتها لـ”الحزام والطريق القطبي”.
في المقابل، بدأت الولايات المتحدة تعزز وجودها في “ألاسكا”، وتعيد تموضعها داخل “مجلس القطب الشمالي”، ساعية لموازنة نفوذ موسكو وبكين، في سياق تنافسي يُعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة.
بيئة تدفع الثمن
لكن في خضم هذا التسابق المحموم، تبقى البيئة القطبية الضحية الكبرى. فأي تسرب نفطي أو نشاط صناعي جائر سيُهدد النظم البيئية الهشة، والحياة البرية التي تعاني أصلًا من آثار تغير المناخ. وتزايد الحركة الملاحية يعمق التلوث والانبعاثات في منطقة تعتبر آخر ملاذ طبيعي متجمد على الكوكب.
فراغ قانوني وأخطار محتملة
رغم وجود اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، إلا أن تفسيرها المختلف من قبل كل دولة يفتح الباب لصراعات قانونية وسياسية. فغياب آلية ملزمة لحل النزاعات وتحديد حدود الجرف القاري يزيد من احتمالات التصعيد، خاصة في ظل النزعة العسكرية التي تصاحب التنمية في المنطقة.
عبثية المشهد
العبث يكمن في أن الدول التي ساهمت في تدمير المناخ بفعل التصنيع والانبعاثات، هي نفسها من تتسابق الآن لاستغلال آثار هذا الدمار. بينما تدفع دول الجنوب، الأقل مساهمة في التلوث، ثمنًا باهظًا من فيضانات وجفاف وكوارث طبيعية دون أن يكون لها نصيب في “كعكة القطب الشمالي”.
جليد يذوب ونظام عالمي يتشكل
في النهاية، القطب الشمالي ليس مجرد ساحة لصراع اقتصادي أو عسكري، بل هو مرآة لتوازنات القوة في العالم. وإذا لم تبادر القوى الكبرى إلى تأسيس آلية مشتركة لإدارة هذه المنطقة بشكل عادل ومستدام، فإننا أمام سيناريوهات مواجهة لا تُحمد عقباها. فإما أن يكون القطب نموذجًا لتعاون عالمي جديد، أو بداية “حرب باردة بيئية” سيدفع العالم كله ثمنها.
الولايات المتحدة
ممرات بحرية
صراع جيوسياسي
كاسحات الجليد
الموارد الطبيعية
UNCLOS
الحرب الباردة
التغير المناخي