
نتنياهو والجنرال زيني
لندن – (ربيع يحيى)
منذ تأسيسه قبل أكثر من سبعين عامًا، لم يشهد جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك” هذا القدر من الزلازل الداخلية التي تضربه تباعًا كما يحدث اليوم. فما بين تسريبات غير مسبوقة، وصراعات داخلية، وتعيينات مثيرة للجدل، يجد أحد أكثر الأجهزة الأمنية حساسية في إسرائيل نفسه تحت الأضواء السلبية، وفي قلب عاصفة تهدد صورته ومكانته وحتى بنيته المؤسسية على المدى الطويل.
إقصاء رونين بار.. بداية الانهيار المعنوي
أولى العواصف بدأت حين استُبعد رئيس “الشاباك” الحالي رونين بار من منصبه، في خطوة فُهمت على نطاق واسع بأنها ذات أبعاد سياسية. فرغم أنه كان لا يزال يمارس مهامه، جاء القرار دون سابق إنذار، وتلاه جدل حاد بشأن هوية من سيخلفه.
لكن المفاجأة كانت في اسم المرشح الجديد: اللواء دافيد زيني، أحد جنرالات الجيش الإسرائيلي، لا يمتلك أي خبرة في “الشاباك” أو في العمل الاستخباري الدقيق الذي يتطلب معرفة معمقة ببنية الجهاز وتعقيداته.
خطوة وُصفت بأنها غير معتادة وخطيرة، خصوصًا أن تعيين شخص من خارج المؤسسة قد يعمّق الفجوة بين القيادة والكوادر، ويطرح تساؤلات حول أهداف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من هذه الخطوة.
تسريبات تزلزل الثقة بالجهاز
لم تمر أيام على الجدل بشأن الإقالة والتعيين، حتى ضربت “الشاباك” عاصفة أخرى أكثر خطورة: تسريب تسجيل صوتي لرئيس “الشعبة اليهودية” في الجهاز، يظهر فيه وهو يطالب باعتقال مشتبهين يهود بالإرهاب، حتى في غياب أدلة كافية.
التسجيل اعتُبر ضربة قاسية لمصداقية الجهاز، وأثار موجة من الانتقادات داخل إسرائيل، خاصة في ظل اتهامات للجهاز بالتساهل مع “الإرهاب اليهودي”، مقارنة بتعامله مع الفلسطينيين.
وفي موازاة ذلك، تم الكشف عن تسريب وثيقة سرية من داخل الجهاز إلى وزير الشتات عميحاي شيكلي وصحفيين، تتحدث عن تحقيقات داخلية أمر بها رونين بار، حول تغلغل الفكر “الكهاني” المتطرف في صفوف الشرطة، في عهد الوزير المتطرف إيتمار بن غفير.
“الكهانية” تعود إلى الواجهة
الوثيقة المسرّبة، والتي وُصفت بـ”شديدة الخطورة”، أعادت إلى الواجهة مصطلح “الكهانية” الذي يرتبط بفكر الحاخام العنصري مئير كهانا، الداعي لطرد الفلسطينيين من “أرض إسرائيل”، وهو تيار محظور رسميًا لكنه عاد بقوة إلى مركز صنع القرار منذ دخول بن غفير الحكومة.
التحقيقات الداخلية التي أمر بها بار، بحسب الوثيقة، كشفت عن “استشراء الفكر الكهاني” داخل جهاز الشرطة، ما أثار سخط قادة اليمين المتطرف، وربما كان أحد أسباب الدفع باتجاه إقالة بار.
زيني.. جنرال غريب في بيت الاستخبارات
لكن التعيين المثير للجدل للواء دافيد زيني على رأس “الشاباك”، كان القشة التي قصمت ظهر الجهاز. فزيني، القادم من الجيش، لا يمتلك أي سيرة استخبارية. ووفق ما نقلته “يديعوت أحرونوت”، فإن مسؤولين داخل الجهاز اعتبروا أن زيني “يجهل أبسط مفاهيم العمل في الشاباك”، وأن تعيينه يبعث برسالة مفادها أن “الولاء السياسي لنتنياهو بات يعلو على الكفاءة والخبرة”.
باراك بن تسور، الضابط السابق بـ”الشاباك” والباحث اليوم في الشؤون الاستراتيجية، قال إن زيني سيكون “خاضعًا تمامًا لنتنياهو”، ما يُضعف استقلالية الجهاز ويؤثر على أدائه في ملفات خطيرة كالإرهاب، والجاسوسية، والحماية الأمنية للبعثات الإسرائيلية حول العالم.
وأشار بن تسور إلى أن “الشاباك” يضم أقسامًا سرية للغاية، بعضها يعمل خارج حدود إسرائيل، ولا يمكن لأي وافد جديد من خارج الجهاز أن يديرها دون سنوات من التعلم والتدرج، محذرًا من أن الجهاز “لا يُدار من فوق، بل يُبنى من الداخل”.
هل يفككه نتنياهو؟
رغم أن تفكيك “الشاباك” ليس مطروحًا، فإن العديد من ضباطه السابقين والحاليين يرون أن ما يحدث اليوم هو “تآكل منهجي” قد يقود إلى فقدان الثقة الداخلية والخارجية به، وتآكل سريته، وربما خروج كوادره المؤهلة في ظل شعور بالإقصاء السياسي.
مصادر داخلية عبّرت عن خشيتها من أن يتحول الجهاز إلى “أداة بيد السياسيين”، بعد أن ظل لعقود “خطًا أحمر” في الحياة العامة الإسرائيلية.
خاتمة
ما يجري في أروقة “الشاباك” ليس مجرد أزمة عابرة، بل تحول بنيوي خطير قد يُعيد تشكيل العلاقة بين المؤسسة الأمنية والدولة العبرية نفسها. فهل نشهد نهاية نموذج “الشاباك المستقل”؟ أم أن هذه العاصفة ستمر كما مرت غيرها؟
ما هو مؤكد أن الجهاز الذي وُلد في الظلال، بات اليوم مكشوفًا أكثر من أي وقت مضى.