
تيك توك - تعبيرية
لندن – (رامي صلاح)
في مشهد يفيض بالسخرية الرمزية، تظهر جماعة “بوكو حرام” – التي تأسست على إنكار التعليم الغربي وتحريمه – وهي تبثّ رسائلها الأيديولوجية ومقاطعها الدعائية على منصّة “تيك توك”، واحدة من أبرز منتجات الحضارة الغربية الرقمية التي طالما نادت الجماعة بهدمها.
اسم الجماعة ذاته يجسّد الفكرة؛ “بوكو” تعني في لغة الهوسا “التعليم الغربي”، و”حرام” بالعربية معروفة، ليصبح المعنى: “التعليم الغربي حرام”. فكيف إذًا لجماعة تُحرّم مخرجات العقل الغربي أن تعتمد على أكثر أدواته تطورًا في الاتصال والانتشار؟
🕳 من الكهوف إلى العالم الافتراضي
لطالما اعتمدت الجماعات الدينية المتطرفة في انتشارها على أدوات تقليدية: المساجد، المدارس الدينية، الأشرطة، والكتيبات. أما اليوم، فقد باتت تعيش في بُنية مزدوجة: ظاهرها ماضوي متزمت، وباطنها حديث متخفٍّ خلف الشاشات والخوارزميات.
منصة “تيك توك” تحديدًا باتت بيئة مناسبة لهذه التنظيمات. فبفضل خوارزمياتها الموجّهة، وسرعة الانتشار، وسهولة إنتاج الفيديوهات القصيرة، استطاعت “بوكو حرام” أن تصل إلى جمهور شاب متعطّش للانتماء، تتلاعب بمشاعره الهشة وهويته القلقة، عبر سرديات تُقدّم “العدل” و”القوة” و”الرسالة”.
🎯 التجنيد في زمن الخوارزميات
لم يعد التجنيد قائمًا على الإقناع العقائدي وحده. بل بات “مُحسّنًا” بالخوارزميات والتفاعل السريع. يستغلّ المتطرفون تطبيقات مثل “تيك توك” و”تليغرام” و”ديسكورد” للوصول إلى المراهقين عبر الرسائل الخاصة والمحتوى المموّه، فيبنون علاقات رقمية قائمة على الاحتواء والوعود بالمعنى، المال، والمكانة.
أدوات التجنيد باتت رقمية، وعمليات الرصد والملاحقة صارت أكثر تعقيدًا. وما يفاقم التحدي أن التجنيد الرقمي لا يتطلب السفر أو الانتماء الفعلي، بل يكفي “التأثر”، الذي يُمكن أن يتحوّل إلى فعل عنيف فردي، كما رأينا في عمليات “الذئاب المنفردة”.
🧬 الحداثة التي تُكفّر وتُستغل
هذا التناقض بين القول والفعل ليس عرضيًا. بل هو جوهري في بنية الفكر المتطرف الذي يُجيد المراوغة بين “الثوابت المعلنة” و”الأدوات النافعة”. الهاتف الذكي، الإنترنت، الذكاء الاصطناعي، العملات المشفّرة، الألعاب الإلكترونية… كلها أدوات حرام في الخطاب، حلال في الاستخدام، ما دام الهدف “مقدّسًا”.
لكن هذا المنطق يُفضي إلى حالة من الانفصام الأيديولوجي، تُحوّل الخطاب المتطرف إلى أداة نفعية مفرطة في البراغماتية، تستبيح كل شيء لتحقيق أهدافها، ولو على حساب مصداقيتها.
🛡 التحدي الرقمي وأخلاقيات المكافحة
أمام هذا الواقع، لا تكفي الحلول التقنية – كإغلاق الحسابات أو الحظر المؤقت – بل لا بد من بناء “حالة وعي نقدي” تُفكّك سرديات الجماعات وتُفضح تناقضاتها، مع تقديم بدائل فكرية ونفسية واجتماعية للشباب.
إن المعركة مع التطرف اليوم لم تعد فقط على الأرض، بل على الشاشات والخوارزميات، حيث تتشكل الهويات، وتُصاغ القناعات، ويُعاد إنتاج الانتماء.