
من مصائد الموت في غزة
لندن – اليوم ميديا
في جنوب قطاع غزة، لم يعد الجوع هو العدو الأول، بل الرصاص. ففي مشهد إنساني مفجع، قُتل عشرات الفلسطينيين خلال محاولاتهم اليائسة الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات الإنسانية التي تديرها مؤسسة GHF، بدعم مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل.
صباح الثلاثاء، فتحت قوات الاحتلال النار على مدنيين فلسطينيين في طريقهم إلى مركز توزيع مساعدات في حي تل السلطان غرب رفح. وأكدت وزارة الصحة الفلسطينية أن 27 شخصًا لقوا حتفهم، في حين نقل الصليب الأحمر الدولي أن مستشفاه الميداني استقبل 184 مصابًا، بينهم 19 وصلوا موتى و8 آخرين توفوا لاحقًا متأثرين بجراحهم، معظمها ناجمة عن أعيرة نارية في الجزء العلوي من الجسم.
الجيش الإسرائيلي أقر بإطلاق النار، مبررًا ذلك بأن “مجموعة من المدنيين انحرفت عن المسار المحدد واقتربت من الجنود”. ووفق ما نقل موقع Axios الأميركي عن متحدث عسكري إسرائيلي، فإن “القوات أطلقت طلقات تحذيرية، ثم أطلقت النار قرب بعض الأفراد الذين واصلوا التقدم”. رواية إسرائيلية تكررت في المجازر السابقة التي وقعت في المكان ذاته يومي الأحد والاثنين، والتي راح ضحيتها ما لا يقل عن 34 فلسطينيًا، وفق ما أوردته CNN وAxios.

الحدث يتجاوز كونه “حادثًا عرضيًا”. فالمشهد تكرر لثلاثة أيام متتالية، وبلغت حصيلة الضحايا عشرات القتلى ومئات المصابين. الأمم المتحدة أعربت عن صدمتها، حيث قال المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إن “الهجمات المميتة على مدنيين يائسين يحاولون الوصول إلى كميات ضئيلة من المساعدات الغذائية في غزة أمر لا يمكن تبريره بأي حال”. وأضاف: “الفلسطينيون باتوا أمام خيارين مرعبين: الموت جوعًا أو الموت برصاص الاحتلال”.
الواقع أن آلية GHF، التي تم الترويج لها على أنها وسيلة “لتجاوز حماس” في توزيع المساعدات، أصبحت اليوم مصدرًا للفوضى والدماء. فالمؤسسة التي تحظى بدعم مباشر من واشنطن وتل أبيب، أعلنت صباح الثلاثاء عن فتح نقطة توزيع جديدة في رفح، داعية السكان إلى الالتزام بممر محدد يبدأ في الخامسة صباحًا. إلا أن ساعة فقط كانت كافية لتحوّل هذه الممرات إلى أفخاخ دامية. منظمة أطباء بلا حدود أكدت أن مستشفى ناصر لم يعد قادرًا على استيعاب الجرحى، ودعت للتبرع بالدم بشكل عاجل.

مساعدات إنسانية مفخخة بالدم!
منذ أكثر من شهرين، يعيش سكان غزة تحت حصار شامل فرضته إسرائيل، ما أدى إلى تدهور كارثي في الوضع الإنساني، وفقدان شبه تام للغذاء والدواء. ومع عودة إدخال المساعدات قبل أسبوعين عبر آلية GHF، تعمّد الاحتلال فرض “ممرات خاضعة لإشرافه المباشر”، بدعوى منع وصول الدعم لحماس، في تجاهل صارخ لحقيقة أن من يدفع الثمن هم المدنيون.
في مداخل مستشفيات رفح، تُروى قصص إنسانية تقشعر لها الأبدان. نوال المصري، والدة طفل أصيب برصاص الاحتلال وهو يحاول جلب كيس طحين، قالت لـCNN: “هل هذه هي المساعدات؟ هل نُقتل من أجل كيس دقيق؟ من يحمينا؟”
أين العالم؟
في ظل كل ذلك، يبدو الصمت الدولي فاضحًا. فباستثناء بيانات خجولة من الأمم المتحدة وبعض المنظمات، لا يُسجل أي تحرك فعلي لحماية المدنيين في غزة أو لضمان مرور المساعدات بأمان. وكأن المجتمع الدولي قرر أن يمارس “الحياد الإجرامي”، في وقت يُقتل فيه المدنيون جوعًا ورميًا بالرصاص.
في غزة، يتجسد أقسى أنواع الظلم حين يصبح الطريق إلى الغذاء، هو ذاته طريق الموت.