
من جبل عرفة
لندن – اليوم ميديا
في مشهد يبعث على الرجفة والسكينة معًا، تدفقت جموع الحجيج صباح الخميس نحو صعيد عرفات، تسبقهم القلوب وتفيض منهم العيون، يطلبون من الله ما لا يُرجى من غيره، ويقفون على صعيدٍ اختصه الله بفيض من الرحمة، وجعله ركنًا لا يتم الحج إلا به.

إنه يوم عرفة.. “ركن الحج الأعظم”، وموسم النداء الأبدي: “جئتُك يا رب، جئتُك من كل فج عميق، مثقلاً بذنوبي، متعلّقًا برجائك”. هنا، في هذا السهل الممتد بين الجبال، تجتمع القلوب المتعبة والأرواح المتلهفة، فلا تُرى سوى أكفٍ مرفوعة، وهمسات تتلو الدعاء، وخطى تسير بخضوع نحو الغفران.

عرفات، هذا المشعر النقي، هو الوحيد من مشاعر الحج الذي يقع خارج الحرم، لكنه الأقرب إلى باب السماء. يقف فيه الحاج وقد نزع عن نفسه الدنيا، ونادى ربّه بنداء إبراهيمي خالد، في مكان تحتضنه الجبال ويحيطه وادي عرنة، ويعلو في وسطه جبل الرحمة كأنّه شاهد على بكاء العابدين وهم يشكون إلى الله كل ما كتموه.

وهنا، كما في كل عام، تهمس الألسن وتتنادى العقول حول فضل هذا اليوم العظيم، ومن ذلك حديثٌ اشتهر بين الناس: “صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والسنة القادمة”، رواه مسلم، وتناقله الخطباء والدعاة، وتلقاه الناس بالقبول.
لكنّ بعض أهل العلم، ومنهم الشيخ أحمد الغامدي، ذهبوا إلى تضعيف هذا الحديث من جهة السند، متتبعين رواياته وأوجه الانقطاع فيها، ناقلين عن كبار المحدّثين كالبخاري وابن حجر والعيني، أقوالًا تشكّك في صحة الحديث أو قوة الاستدلال به.

وقد نقل الغامدي عن السلف أقوالًا تفيد بكراهة صيام هذا اليوم، وتوقف بعضهم عند معنى الحديث، إذ رأوا أن مغفرة ما لم يقع من الذنب بعدُ، لا يليق إلا بمن اصطفاهم الله، كأهل بدر أو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام. وقالوا: كيف لنفلٍ أن يعادل فرضًا؟ وكيف يُغفر المستقبل من الذنوب بعمل لم يُفرض أصلًا؟
ورغم اختلاف الآراء وتعدد الاجتهادات، تبقى الحقيقة الروحية ماثلة في عيون الواقفين على عرفات:
أنهم جاءوا بقلب مكسور، وأنهم يرجون رحمة لا تُقاس بحديث، بل بكرم الله الذي وسع كل شيء.
في هذا اليوم، لا يسمع الناس في عرفات إلا تلاوة خاشعة، ودعاءً يخرج من الأعماق، وأملًا يُبعث من رماد الخيبات.. يوم تكتب فيه الأرواح سطور التوبة على بياض الغيم، وترفع فيه الأرض رأسها للسماء تنتظر التوقيع بالغفران.
فلعلها ساعة إجابة، أو نظرة رضا، أو دمعة في عرفة، تُبدّل الحال، وتفتح بابًا لا يُغلق.