
فلسطينيون يتلقون مساعدات إنسانية بعد دخول شاحنات المساعدات عبر معبر نتساريم في قطاع غزة (الغارديان) غيتي
في جنوب غزة، حيث يخيّم الرماد على سماءٍ لم تعد تعرف الزرقة، وحيث لم تبقَ جدرانٌ قائمة ولا نوافذُ مفتوحة على الأمل، يقف الطاقم الطبي في مستشفى ناصر كآخر خطٍ للدفاع عن الحياة. لا يحمل هؤلاء بنادق، بل يداوون بالضمادات والرحمة، في حربٍ لم يختاروها، لكنها اختارتهم شهودًا على فصولٍ من الجحيم.
أمام عتبة كل غرفة، يقف طبيب أو ممرضة بوجهٍ متعبٍ وعينين مثقلتين بالسهر، يُمسكون بزمام الحياة حين تتفلت من الجسد، يُغلقون عيونًا أُنهِكت من البكاء، ويُطمئنون قلوبًا لم تعرف الطمأنينة منذ شهور. هذا المستشفى، وسط مدينة خان يونس، تحوّل إلى معجزة يومية تُقاوم الموت.
“رصاصة في قلب المشفى”
في إحدى الليالي الحالكة، وصل مصابٌ إلى قسم الطوارئ. لم تكن إصابته من قصف إسرائيلي هذه المرة، بل من معركةٍ دموية بين عصابات تتنازع على كيس دقيق.
لم تكد تمر ساعة، حتى دوّى الرصاص داخل المستشفى نفسه. مسلحون اقتحموا المكان بأسلحتهم، حطموا الأبواب، واعتدوا على الطاقم الطبي، وسط صرخات المرضى، وأصوات الأجهزة التي كانت تحاول إنعاش من بقي في الجناح حيًا.
يروي أحد الأطباء: “لم نعد نفرّق بين المقاتل والمريض.. الرصاصة وحدها تُحدد مصير من يعبر الباب”.
“مدينة تنهشها النيران من كل الجهات”
غزة اليوم ليست فقط مدينة محاصرة، بل مدينة مفككة، تنهشها الحروب من فوق، والعصابات من تحت، والجوع في كل ركنٍ منها يُعلن سطوته على الناس.
في ظلّ غياب الدولة وتفكك النظام، تحوّلت المساعدات إلى غنيمة، والدقيق إلى سبب للقتل، والأدوية إلى سلعة في السوق السوداء.
قال مسؤول في أحد المستشفيات: “يأتي المرضى إلينا بنزيف في القلب، فننزف معهم قهرًا.. ليس لدينا ما نقدمه، سوى أننا لا نغادر مواقعنا”.
“حين تصير الحياة صفقة سياسية”
منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرهما من الجهات الدولية، عاجزة عن فك الخناق، أو ضمان حماية للطواقم الطبية. المساعدات، وإن وُجدت، تصل في حراسة البنادق وتحت أعين القناصة.
كيس الدقيق الواحد يُباع بـ 500 دولار، فيما يموت الأطفال جوعًا، أو من العدوى، أو من رصاصة بلا عنوان.
“بقايا أمل تحت الركام”
ورغم كل هذا، لا يزال هناك من يُمسك بيد طفل ينزف، أو يُغلق جفن امرأة شهقت للمرة الأخيرة. لا يزال هناك من يُمسك بسماعة طبيب ويفتش عن نبضٍ خافت خلف الركام.
“نحن لا نُنقذ فقط الأجساد”، تقول ممرضة في قسم الطوارئ، “نحن نُمسك بخيط الإنسانية كي لا ينقطع كليًا من هذا المكان”.
“نداء إلى ضمير العالم”
أي ضمير يقبل أن يتحوّل مستشفى إلى ساحة قتال؟ أي إنسانية تسمح بأن يُقايض الخبز بالحياة؟ وأين العالم من مدينةٍ تُحاصرها الجراح وتخذلها العيون؟
غزة لا تطلب أكثر من الحياة، والحياة لا تُشترى، بل تُنقذ.
وحدة الأخبار – لندن – اليوم ميديا