السودان ومصر: اتفاقات شاملة تثير جدلاً.. هل يعود فاروق من جديد؟

أفادت مصادر مصرية بأن رئيس وزراء السودان في الحكومة المؤقتة، كامل إدريس، أبرم اتفاقيات شاملة مع الحكومة المصرية، بموجبها تصبح السودان خاضعة لتنسيق واسع مع القاهرة. وتشمل هذه الاتفاقيات إدارة كافة واردات وصادرات السودان، بما في ذلك الذهب، عبر الموانئ المصرية، مع تحديد نسبة لمصر بعد تصفية الذهب وتسويقه دولياً. كما تضمنت الاتفاقية تأهيل الشركات المصرية للبنية التحتية السودانية، بما في ذلك الطرق والكباري والموانئ والمطارات والسكك الحديدية، وربطها بمصر وارتريا، مع وجود ميناء عسكري ضمن هذه الاتفاقات. وأشارت المصادر إلى أن التجارة بين البلدين ستتم بالعملات المحلية، أي الجنيه المصري والجنيه السوداني.
اتفاقات شاملة تثير جدلاً
وقد قامت بعض الشركات بالفعل بنقل مقارها من القاهرة إلى مناطق حلايب وشتالين لتكون قريبة من السودان، في خطوة تؤكد عمق التعاون المصري السوداني، لكنها في الوقت نفسه أثارت جدلاً واسعاً، إذ يرى البعض أن الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة انتقالية مؤقتة قد تمثل تسليم سيادة السودان وموارده الاقتصادية والأمنية لمصر إذا تم تنفيذها فعلياً. وزاد الجدل بعد تداول أخبار عن احتمالية عودة حكم الملك فاروق إلى السودان، ما أثار تساؤلات بين المؤرخين والسياسيين وحتى الشارع السوداني حول إمكانية تكرار تجربة الحقبة الملكية أو تحوّلها إلى شكل أكثر تعقيداً.
من يبيع السودان اليوم؟
عند إعلان استقلال السودان عام 1956، كان إرث الحكم المصري-البريطاني لا يزال حاضراً، وكانت فترة الملك فاروق لحظة انتقالية، إذ بقي السودان ورقة مساومة بين القاهرة ولندن. ويشير المؤرخ البريطاني روبرت كولينز إلى أن “السودان ورث دولة ضعيفة مؤسساتياً، مثقلة بالانقسامات الداخلية، ولم يُمنح الفرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد بعد الاستقلال”، وهو إرث ترك فراغاً سهّل لاحقاً تدخل العسكر في المشهد السياسي.
العسكر في الحكم.. دورة الأزمات المستمرة
منذ انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958، دخل السودان حلقة شبه دائمة من حكم العسكر والانقلابات، حيث لم يكتف الجيش بإدارة الدولة، بل جعلها أداة سياسية واقتصادية تهيمن على المجتمع، بحسب الباحث الأميركي أليكس دي وال. هذا الواقع جعل المدنيين في موقف المقاومة لا الشراكة، وبقيت السلطة رهينة صراع مستمر بين الجنرالات والشارع.
كامل إدريس و”الدولة المفقودة”
برزت شخصيات دولية سودانية مثل كامل إدريس، الذي تولى مناصب رفيعة في الأمم المتحدة، لكنه ظل في الداخل السوداني محل تساؤل حول شرعيته: كيف يمكن للنخب المدنية أو الدبلوماسية أن تؤثر في بلد تحكمه الدبابات؟ ويشير محلل السياسة الأفريقية في “تشاتام هاوس”، بول نانتولي، إلى أن “المعضلة السودانية ليست في غياب العقول، بل في تغييبها من قبل منظومة عسكرية ترى الحكم غنيمة لا وظيفة”.
الاستعمار الجديد.. بين واشنطن وموسكو والخليج
اليوم، يتساءل كثير من السودانيين عن احتمال عودة شكل من أشكال الاستعمار، لكن بأدوات حديثة. ويقول الباحث الأميركي كاميرون هدسون إن الفراغ السياسي في السودان يجعل القوى الدولية والإقليمية أكثر جرأة على استخدام البلاد كمساحة صراع بالوكالة، سواء عبر الدعم العسكري أو التمويل السياسي، ما يحوّل السودان من دولة ذات سيادة إلى مجرد ورقة تفاوض بين واشنطن وموسكو والخليج.
السوداني.. بين الغضب واللامبالاة
رغم الثورات المتكررة، يعيش الشارع السوداني حالة من الإرهاق. وكثير من الشباب الذين خرجوا في ثورة ديسمبر 2018 يشعرون أن دماءهم ذهبت هدراً. وتوضح الباحثة الألمانية آن-كاثرينا هورنغ أن “المواطن السوداني يعيش بين خيارين مؤلمين: القبول بحكم العسكر وما يجره من فساد، أو مواجهة فراغ أمني قد يدمر البلاد أكثر”، وهو ما يعكس العجز الشعبي أمام آلة السلطة.
إلى أين يتجه السودان؟
المستقبل السوداني مفتوح على عدة سيناريوهات:
- استمرار حكم العسكر مع بعض الترتيبات الشكلية، وهو ما يخشاه الشارع.
- تسوية سياسية تُفرض بفعل ضغوط إقليمية وغربية، لكنها قد تفتقر للشرعية الشعبية.
- انفجار داخلي يقود إلى تفكك الدولة، وهو السيناريو الأخطر.
ويرى الغرب، بحسب محلل العلاقات الدولية جيفري فيلتمان، أن “أي حل في السودان يجب أن يكون سودانياً خالصاً، لكن دون ضغوط على العسكر لن يتغير شيء”، وهو ما يعكس المفارقة بين الحاجة للتدخل لحماية السودان، وبين مخاطر الوصاية الخارجية.
الخلاصة
السودان يقف اليوم على حافة التاريخ، بين إرث الملك فاروق الذي مثل بداية الانقسامات، وحكم العسكر الذي عمّق الأزمات، وبين محاولات مدنية خجولة لا تصمد أمام الضغط العسكري والسياسي. السؤال الأكبر يبقى: هل يمتلك السودانيون الشجاعة والقدرة على كسر هذه الدائرة، أم سيظل مصيرهم معلقاً بين إرث الماضي وتدخلات الآخرين؟
لندن – اليوم ميديا