image

جنود إسرائيليون في غزة

خالد عمر بن ققه

تتناسلُ كمائن «بيت حانون»، منذ ما بعد طوفان الأقصى، وقبله أيضا، في عمليات بلغت من المواجهة حدًّا يصعب استيعابه أو إدراكه، فتهبُ عمرًا جديدا لأولئك الذين ينتظرون نحبهم، سعيا لحياة عزة قصيرة مهما طالت بعد النصر، أو الذهاب إلى عالم الخلود في حياة أبديّة، يخالونها، ونخالها معهم كذلك، ما يعنى الحسم في الموقف الرّاهن مقاومة وجهادا، وعدم التولي يوم الزحف، وهم بذلك يعيدون التأكيد على أهمية عودة التاريخ عبر صوت الأرض، الذي يتردد صداه منذ قرون، حين توالت جحافل الأعداء زحفا نحو بيت المقدس، حاملة الظلم والظلام، لكنها في النهاية تبددت، وأصبحت هشيما تذروه الرياح في حركة التاريخ ومسارات الزمن.

تحاولُ بيت حانون اليوم أن ترد على نفسها تحية سلام بعمل عسكري قتالي ضد عدوها- حين أكره أهلها عن الحرب- تكون أحسن من تلك التي ألقتها في معركتها الشهيرة، حين هزم الأيوبيُّون الصليبيّين في معركة على تلة «أم النصر»، ونسبوا إليها انتصارهم، وخلّدوه عُمرانًا وقيمة، في ذلك «الجامع» الذي بنوه، وسموه «مسجد أم الانتصارات» إحياءً لذكرى النصر.

بذلك تبدو «بيت حانون» من خلال عمليتها العسكرية الأخيرة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي صانعةً لنصر عام يلوح في الأفق، نتيجة عزيمة وصبر لمن هم تحت الأنقاض، الذين يدخلون إسرائيل، كما قال الناطق العسكري باسم كتائب القسام، أبوعبيدة، الثلاثاء الماضي (8 يوليو الجاري): «معركة الاستنزاف التي يخُوضها مقاتلونا مع العدو من شمال القطاع إلى جنوبه ستكبّده كل يومٍ خسائر إضافية، ولئن نجح مؤخرًا في تخليص جنوده من الجحيم بأعجوبة؛ فلربما يفشل في ذلك لاحقًا ليصبح في قبضتنا أسرى إضافيون».

في هذا وَصْف حقيقي ومقنع لصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وهو الأساس في صناعة المعادلات على الأرض، وتحديد معالم المرحلة في حرب الإبادة الدائرة حاليا، والكشف عن علاقة فلسطين، ممثلة في غزة وصغيرتها بيت حانون، بمحيطها العربي، وفضائها الإسلامي، وحضورها العالمي من خلال العلاقات مع الآخر المعادي لها أو المناصر، وكل هذا قد ينتهي إلى السؤال الآتي: مَنْ سَيُهِّجر مّنْ؟، وأحسب أن إجابته تأتي واضحة من بيت حانون، حيث الولادة الجديدة للفلسطينيين من تحت الأنقاض، حالة من البعث الجديد قبل يوم القيامة.

بكمائنها المتواصلة، تصنع بيت حانون من أشياء أبنائها المقاومين مجدًا، وتعطي عهدا قاطعا للعالم أجمع بأن الفلسطينيين- ولا أحد غيرهم- هم الذين يقررون مصيرهم، مهما كانت تكلفته، وهم بلا ريب صانعو الغد القريب في فضاء الشرق الأوسط الجديد، وهذا بالطبع يتناقض مع خطابي ترامب ونتنياهو.

القول بذلك؛ باعتباره نتيجة حتمية لما يحدث الآن، ليس تعاطفاً مع المقاومين، وإن كان يحق لنا ذلك وهو أضعف الإيمان، وإنما هو حقيقة تؤكدها جملة من الشواهد، تبين أن حركة التاريخ العالمي في وقتنا الراهن يُحدد مسارها مصير فلسطين- القطاع والضفة- حيث الانتظار المخيف لكل من ترامب ونتنياهو عند اجتماعهما الأخير في واشنطن إلى ما ستؤول إليه الأمور على الأرض الفلسطينية، خاصة بعد أن تمكنت المقاومة من تكبيد العدو خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.

وفي السياق ذاته، تبدو مفاوضات الدوحة رهينة لعمل المقاومة على الأرض، لجهة تحديد شكل الاتفاق وبنوده.. تلك المقاومة، التي تودُّ أطراف عديدة إنهاء وجودها على الأرض، ولا شك أن معظم دول العالم- ولكل واحدة منها رؤيتها ودوافعها- ترغب في توقيف الحرب، وبتوقيفهاـ وحتى لو استمرت- لن يتشكل الشرق الأوسط الجديد الذي تريده إسرائيل وأمريكا، لكن بكل تأكيد سينتهي الأمر إلى فرز فلسطيني، يعيد ترتيب علاقته بإسرائيل وبالعالم، وسيكون ذلك على أرض فلسطين، بداية من غزة، وفي المستقبل المنظور وصولاً إلى القدس.

نقلا عن المصري اليوم