
إحدى حاويات الغاز خلال إبحارها إلى أوروبا
أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص
أدرك بوتين ما يريده الأميركيون منذ عام 2014، فقرر أن تقوم الشركات الروسية بإنهاء خط نوردستيريم 2 إلى ألمانيا بدلاً من انتظار مشاركة شركات النفط والطاقة الغربية، وهكذا بدأ سباق محموم بين الولايات المتحدة وروسيا.
أصبح الغاز المسال جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأميركية، وتستخدمه الولايات المتحدة كسلاح سياسي واقتصادي. مكنت ثورة الصخري الولايات المتحدة من قلب أسواق الطاقة العالمية رأساً على عقب، لهذا فهي ثورة. فكل الاتجاهات الصعودية أصبحت هابطة، وكل الاتجاهات النازلة أصبحت صاعدة، وحولت الولايات المتحدة من أكبر مستورد متوقع للغاز المسال إلى أكبر مصدر له، وأصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، وأحد أكبر مصدري النفط.
في بداية الألفية، أعلن عدد من رؤساء الشركات والمحللين والسياسيين الأميركيين أن عصر الغاز الأميركي انتهى، وعلى الولايات المتحدة أن تستورد الغاز المسال. وبناء على ذلك استثمرت الشركات الأميركية في قطر، وجرى بناء عدد من محطات إعادة التغويز في الموانئ الأميركية استعداداً لفيضان من واردات الغاز المسال. إلا أن ثورة الصخري غيرت ذلك وجاءت بكميات هائلة من الغاز، التي لا يمكن تسويقها إلا عن طريق الغاز المسال لأنه لا يمكن بناء أنابيب إلى أوروبا وآسيا.
بعد ضم بوتين لجزيرة القرم، قررت الدولة العميقة في الولايات المتحدة دعم صناعة الغاز المسال، بهدف إحلال الغاز الأميركي محل الروسي في أوروبا. خلال تلك الفترة، لم تكن أوروبا معتمدة على الغاز الروسي بصورة كبيرة فقط، ولكن اعتمادها يزيد بصورة كبيرة. هذا الاعتماد الكبير يعني، من وجهة النظر الأميركية، أن بوتين يستطيع الضغط على أوروبا لتحقيق ما يريد، أو يمنع الدول الأوروبية من اتخاذ أي إجراءات ضد روسيا.
أدرك بوتين ما يريده الأميركيون منذ عام 2014، فقرر أن تقوم الشركات الروسية بإنهاء خط نوردستيريم 2 إلى ألمانيا بدلاً من انتظار مشاركة شركات النفط والطاقة الغربية، وهكذا بدأ سباق محموم بين الولايات المتحدة وروسيا. نجح كلاهما في بناء البنية التحتية، إذ أصبحت الولايات المتحدة تصدر الغاز المسال إلى أوروبا، وبنى بوتين أنبوب نوردستريم 2، ولكن لم يدرك مدى سيطرة الأميركيين على السياسات الألمانية، إذ قرروا عدم استلام أي غاز عبر الأنبوب، ومن ثم انتهى مشروع بوتين.
ولاحقاً جرى تفجير أنبوب نوردستريم 1 في قاع البحر، وبالتالي توقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر هذا الأنبوب أيضاً. مع انخفاض ضخ الغاز الروسي أفسح المجال أمام الغاز المسال الأميركي، وزيادة اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز المسال، لدرجة أنه شكل 51 في المئة من إجمالي واردات الغاز في يونيو (حزيران) الماضي.
خلال فترة السباق المحموم، حصلت “معارك جانبية” كثيرة في مجال الغاز. فهناك عقود طويلة الأمد بين “غازبروم” والشركات الأوروبية لإمداد الغاز عبر الأنابيب، بينما كانت روسيا تبني محطات الغاز المسال، ووقعت عقود طويلة المدة مع ألمانيا. الشركات الروسية تحقق أرباحاً أكثر من بيع الغاز المسال لأوروبا بدلاً من بيع الغاز عبر الأنابيب، فقام بوتين بالإصرار على دفع الشركات الأوروبية ثمن الغاز عبر الأنابيب بالروبل الروسي، فقرر الاتحاد الأوروبي معاقبة أية شركة تدفع بالروبل، ولما لم تدفع، أوقف بوتين ضخ الغاز بالأنابيب “قانونياً”، وأجبر الأوروبيين على شراء الغاز المسال المرتفع الثمن، لأنه لم يكن هناك بديل.
العقد طويل المدة أوقع ألمانيا في ورطة، فحتى لا تظهر علناً أنها تستهلك الغاز الروسي وتمول حرب بوتين في أوكرانيا، نسقت مع الروس وفرنسا لإرسال الشحنات إلى فرنسا، حيث يجري إعادة تغويزها وإرسالها عبر الأنابيب إلى ألمانيا. بعبارة أخرى، ألمانيا ما زالت تعتمد على الغاز الروسي حتى يومنا هذا.
تقوم ثلاث دول أوروبية في الاتحاد الأوربي باستيراد الغاز المسال الروسي، وهي فرنسا وإسبانيا وبلجيكا، وترفض هذه الدول كل محاولات الاتحاد الأوروبي حظر استيراد الغاز المسال الروسي. المثير في الأمر أن هذه الدول تستورد الغاز الروسي نيابة عن دول أخرى. فأوروبا موصولة بشبكة عنكبوتية من أنابيب الغاز، وبمجرد وضع الغاز في أنابيب دولة ما، يمكن أن يذهب إلى أية دولة. عندما رفضت أوكرانيا تجديد عقد مرور الغاز في أنابيب عبر أراضيها إلى أوروبا بضغوط أميركية – أوروبية، حصل عجز في إمدادات الغاز في أوكرانيا التي كانت تحصل على جزء من الغاز الروسي. حصلت أوكرانيا على الغاز الأميركي عن طريق شحن الغاز المسال الأميركي إلى موانئ يونانية، وجرى إعادة تغويزه هناك، ثم إرساله عبر شبكة معقدة من الأنابيب إلى أوكرانيا.
الغاز المسال والبحر الأحمر
أقرت مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي حظراً على استيراد النفط الخام الروسي والمنتجات النفطية، ولكنها لم تحظر الغاز على الإطلاق. إلا أن بعض الدول توقفت عن شراء الغاز الروسي، بينما أوقفت روسيا الضخ إلى دول أخرى. نتيجة لذلك، جرى تصريف الغاز الروسي عن طريق بناء أنابيب على الصين، والتوسع في صادرات الغاز المسال. الحظر على النفط الروسي جعل روسيا تصدر النفط إلى آسيا عبر البحر الأحمر حيث تضاعفت الشحنات أكثر من 10 مرات، كما بدأت بشحن الغاز المسال إلى آسيا أيضاً.
روسيا ليس لديها أية مشكلات مع الحوثيين، لذلك تمر شحنات نفط الأورال والقطبي الروسي عبر البحر الأحمر ومن باب المندب من دون أية مشكلات. إذا لم يكن هناك أية مشكلات بين روسيا والحوثيين، لماذا يمر النفط الروسي من البحر الأحمر ولا يمر الغاز المسال الروسي؟ شحنات الغاز المسال الروسي تخرج من الدائرة القطبية شمال روسيا، تدور حول أوروبا الشمالية ثم تذهب جنوباً وتدور حول أفريقيا لتذهب إلى آسيا. ولماذا لا تمر في البحر الأحمر؟ الأمر نفسه ينطبق على الغاز المسال القطري. قطر ليس لديها مشكلة مع الحوثيين، لماذا تدور حاملات الغاز المسال القطرية حول أفريقيا ولا تذهب عبر البحر الأحمر إلى أوروبا؟ لأنها حرب الغاز بين الولايات المتحدة وروسيا.
نقلا عن “إندبندنت عربية”