image

مجدي رشيد

بقلم: مجدي رشيد – أكاديمي ومختص مهني في الدراسات السياسية والاجتماعية مقيم في ألمانيا

كثيرًا ما يُوجَّه إليّ النقد بأني أكثر من تسليط الضوء على مواطن الخلل في الشأن السوداني، دون أن أُقدّم بدائل أو رؤى واضحة للحل. وأتفهم تمامًا هذا الانطباع، بل وأراه مشروعًا، في ظل ما نعيشه من أزمة خانقة تحتاج إلى بصيص أمل وطريق خروج. لكنني أؤمن أن بداية الإصلاح الحق تبدأ من تسمية الأشياء بأسمائها، ومن تشريح الأزمة دون مواربة أو تجميل. فالنقد بالنسبة لي ليس غاية، بل وسيلة؛ هو أداة لتفكيك البنى المنتجة للفشل، وكشف مواقع التواطؤ والتقصير، تمهيدًا لمسار وطني قابل للتوافق.

نحن لا نعيش أزمة سياسية عابرة يمكن معالجتها بحوار أو وثيقة. نحن أمام كارثة شاملة، تتداخل فيها المأساة بالعبث، ويتحول الانهيار إلى حالة اعتياد يومي. لقد اختُطِف الوطن بواسطة بنية عنف مركّبة، تبدأ من سلطة السلاح، وتمر عبر شبكات الفساد، وتنتهي بالإقصاء والتخوين وانهيار المعايير. في مثل هذا الواقع، يصبح السكوت تواطؤًا، ويغدو التجميل خيانة للضمير.

ولذلك، فإن ما أمارسه من نقد ليس جلدًا للذات، ولا هروبًا من المسؤولية، بل موقف مقاوم في وجه تطبيع القهر. إن من يطالب كاتبًا مستقلًا بتقديم حلول سريعة وشاملة، يسيء فهم طبيعة الأزمة، كما يسيء فهم طبيعة الدور. فالحلول الحقيقية ليست وصفات جاهزة تُعرض في مقالة، ولا خطط سريعة تُحسم في ندوة. الحل يتطلب اعترافًا جماعيًا بالحقائق المرة، وتفكيكًا عميقًا للبنى التي أنتجت هذا الخراب، ثم انطلاقًا نحو مشروع وطني جديد.

كيف يمكن طرح حلول، ونحن لم نتوافق بعد على تعريف الدولة؟ على معنى الوطن؟ على مشروعية من يحكم؟
كيف تُبنى البدائل، ونحن واقفون على ركام الخراب، نتهرب من المحاسبة، ونخشى المصارحة؟
إن تجاوز الأزمة يبدأ من مواجهة الحقيقة: من الاعتراف بما ارتكبته القوى المسلحة، بما فشلت فيه النخب، بما شارك فيه المجتمع، عن قصد أو عن غفلة، من صمت على الظلم أو تهاون مع الاستبداد.

أنا لست حزبًا سياسيًا، ولا زعيم تيار، ولا ساعيًا إلى موقع. أنا فرد منحاز للحقيقة، منحاز للضحايا، منحاز لسؤال الدولة المختطفة. دوري أن أكتب، أن أرفض، أن أقول “لا” حين يصمت الجميع، أو يهتفون بـ”نعم” من فرط الخوف أو الانكسار. لا أملك مشروعًا سياسيًا متكاملاً، لكنني أملك حسًا أخلاقيًا يرفض التزييف، ويرفض أن يُغسل الدم بشعارات الوطنية الزائفة.

ومع ذلك، أنا لا أكتب من قاع اليأس، ولا من ترف الغضب. ما ألمّح إليه أحيانًا وسط النقد، وأجاهر به اليوم، هو أن السودان لن ينهض:
• إلا إذا أُعيد تعريف الدولة على أنها خدمة للناس، لا سلطة عليهم.
• إلا إذا تم الاعتراف بتنوعه الحقيقي – سياسيًا، ثقافيًا، عرقيًا، وفكريًا – باعتباره ثروة لا تهديدًا.
• إلا إذا توقفت لعبة تدوير العنف بين نخبة مدمنة للفشل، مهووسة بالحكم، وشعب حائر مثقل بالجراح.

هذه ليست حلولًا ، بل ملامح طريق. لا تكفي، لكنها بداية تفكير خارج الصندوق الذي احترق بنا جميعًا.

إن من السهل أن نطالب بالحلول، لكن الأصعب هو الاستعداد لدفع ثمنها. والحل يبدأ فقط عندما يعترف كل طرف بحجمه الحقيقي، بدوره، بأخطائه. حين نتوقف عن الإنكار، ونمتلك شجاعة أن نحلم بسودان لا يُدار بالدم، ولا يُبنى على الأكاذيب.

وحتى يحين ذلك، سأواصل الكتابة كما أرى، والنقد كما أؤمن، والقول بما أظنه حقًا.
لا لأنني أزعم امتلاك الحقيقة، بل لأن الصمت في زمن الانهيار… خيانة.

    اليوم ميديا، موقع إخباري عربي شامل، يتناول أبرز المستجدات السياسية والاقتصادية والرياضية والثقافية، ويتبع شركة بيت الإعلام العربي في لندن. 

    جميع الحقوق محفوظة © ARAB PRESS HOUSE