أحزاب السودان بين الإرث التاريخي وأزمة الثقة الشعبية

بقلم: مجدي رشيد
يشهد المواطن السوداني في الفترة الأخيرة صورة صادمة عن ممارسات الأحزاب السياسية، مليئة بالتناقضات، مما يثير تساؤلات جدية حول مصداقية العمل السياسي في البلاد. فمعظم الساسة الحاليين لم يتلقوا التدريب السياسي عبر مؤسسات راسخة أو تجربة ديمقراطية مستدامة، بل ورثوه عبر الروابط العائلية والطائفية والدينية، أو تعلقوا به خلال الجامعات عبر ما يُعرف بـ**“أركان النقاش الجامعية”**، حيث تحولت السياسة في كثير من الأحيان إلى جدل نظري وعنف لفظي وجسدي، أكثر من كونها ممارسة مسؤولة لبناء مشروع وطني.
تعود جذور هذه الأزمة إلى مؤتمر الخريجين والحراك الوطني وصولًا إلى الاستقلال، حيث ترسخت أنماط الممارسة السياسية المبنية على المركزية والانقسامات الطائفية، ما أدى إلى عجز الأحزاب التقليدية عن بناء مؤسسات قوية أو برامج واضحة. ونتيجة لذلك، فقدت هذه الأحزاب ثقة المواطنين عبر العقود، خصوصًا خلال التجارب الديمقراطية القصيرة والانقلابات العسكرية، وصولًا إلى ثورة ديسمبر 2018م.
لعبت أركان النقاش الجامعية دورًا مضادًا، إذ أنتجت تيارات سياسية جديدة وأفكارًا نقدية، وأسهمت في تحريك الشارع السوداني خلال انتفاضات 1964 و1985 و2018. ورغم ذلك، لم يتحول النشاط الجامعي بالكامل إلى مؤسسات حزبية قوية قادرة على قيادة التغيير البنّاء. ومن أبرز سلبيات خريجي هذه الأركان أن كثيرين منهم ما زالوا أسرى الشللية الجامعية، حيث أصبحت الولاءات الشخصية والزملائية قاعدة شبه مطلقة في ممارساتهم السياسية. وكما هو الحال مع خريجي المؤسسة العسكرية الذين يعتمدون على شبكة ولاءات خاصة بالدفعات التي تخرجوا منها، يواصل هؤلاء الساسة الاعتماد على روابطهم الجامعية القديمة، ما يحدّ من انفتاحهم على المجتمع ويعيق تبني سياسات حزبية حقيقية تلبي تطلعات المواطنين.
غياب المؤسسية السياسية، التناقض بين الخطاب والممارسة، واعتماد الولاءات الضيقة أدّى إلى فجوة متزايدة بين المواطن والنخب السياسية. المواطن اليوم يعيش حالة من القلق والشك تجاه الأحزاب، بينما يبرز الشباب الجامعي كقوة بديلة للنقد والمطالبة بالتغيير، لكن تأثيرهم محدود ما لم تُستثمر هذه الطاقات في مؤسسات حزبية فعالة.
إعادة الثقة بالمواطن تتطلب إعادة بناء الأحزاب السودانية على أسس مؤسسية حديثة قائمة على الشفافية والمساءلة، وفتح قنوات للتفاعل مع الشباب والأكاديميين، والاستفادة من روح النقد والإبداع الجامعي. بذلك تتحول الأحزاب من أدوات للسلطة إلى أدوات لبناء مشروع وطني شامل يعيد للمواطن ثقته بالحياة السياسية، ويحقق المشاركة الديمقراطية والتنمية المستدامة.